أميركا.. من مستنقع فيتنام إلى وحول الشام

لم تجد أميركا أسلحة كيماوية أو جرثومية في العراق، وغادرته بنحو مليوني قتيل عراقي وملايين المهجّرين، وبثلاث دول متناحرة لم تكتمل حتى الآن صيغة انفصالها، وبهدايا تذكارية غريبة: مرحاض كان يستعمله صدام حسين في الزنزانة، وقطعة من مؤخرته المجسّمة على تمثال برونزي، وتم إيداع الهديتين في المتحف العسكري الأميركي بواشنطن، إضافة إلى الهدية الثالثة التي حملها جورج بوش على وجهه من فردتيّ حذاء منتظر الزيدي.

لم تتضح حتى الآن تحقيقات استخدام الغاز السام في الغوطة الشرقية، وأميركا ليست بحاجة إلى انتظار النتائج، لأن الحرب الصاروخية الخاطفة على سورية، إن حصلت، فهي حاجة داخلية ضمن البيت الأميركي.

دبلوماسي أميركي صرّح منذ أيام بأن السيناتور الجمهوري جون ماكين هدّد رئيس الأركان بعدم التجديد له في منصبه إذا لم يقدّم للرئيس أوباما خطة عسكرية للتدخّل في سورية، في ما يبدو أنه ضغط من صقور هذا الحزب على الرئيس الأميركي للإيفاء بتعهداته السابقة أن يتدخل في سورية في حال تم استعمال أسلحة كيماوية أو غازات سامة من قبَل النظام، فسارعت رئاسة الأركان الأميركية لإعداد أكثر من خطة وضعتها على طاولة الرئيس، وحرّكت القطع البحرية في المتوسط بانتظار قرار أوباما الذي ينتظر بدوره تركيب تهمة الهجوم بالغاز السام على الغوطة الشرقية، ليكون “أخلاقياً في التحرّك وفق القانون”، خصوصاً أنه هو من انتقد ما فعله سلفه بوش في العراق.

أميركا التي قررت بعد ورطة العراق أن تُحارب بـ”الكفوف البيضاء”، وأن تنأى بنفسها عن أي تدخّل عسكري مباشر في الشرق الملتهب، تجد نفسها اليوم متورّطة بأن تقود بنفسها الحرب على سورية مع استحالة صدور قرار أممي بهذا الشأن، نتيجة “الفيتو” الحتمي لروسيا والصين.

وسط أجواء التحضير لحرب محتمَلة يُقرّرها أوباما شخصياً، عقد رؤساء أركان “الناتو” والنظراء الخليجيون اجتماعات ماراتونية في العاصمة الأردنية عمّان، درسوا فيها خطط التدخّل في سورية وآليات التحرّك، ومن ضمنها ما سرّبته صحيفة “لو فيغارو” الفرنسية عن هجوم برّي وجويّ على دمشق بقيادة ضباط أردنيين وأميركيين و”إسرائيليين” انطلاقاً من الأراضي الأردنية لإسقاط العاصمة دمشق.

الباحث والإعلامي الأردني نبيل الغيشان؛ المقرّب جداً من الملك عبدالله بن الحسين، سئل منذ يوميْن عن صحّة عرْض الأمير بندر بن سلطان دفع كامل الديون الخارجية للأردن البالغة نحو ثلاثة مليارات دولار، مقابل فتح الأردن أجواءه وحدوده البريّة أمام “الناتو” والجيوش الخليجية، التي ربما تشارك بالهجوم البرّي.. لم يؤكد الغيشان ولم ينفِ، بل استدار حول السؤال وقال: منذ سنتين رافقتُ الملك في زيارة إلى واشنطن، وكانت الخزينة الأردنية خاوية، ولم يوافق الأردن على عرض مماثل، لأن سورية شريان حيوي للأردن من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن استقرار العرش الهاشمي هو عندنا أهم من مغريات التدخّل في دولة شقيقة، مضيفاً: “أجزم بأن الأردن لن يتدخّل في الحرب المزعومة، ولن يسمح بفتح أجوائه وحدوده لهذا الغرض، لأننا بلد ضعيف ولا نحتمل المزيد من تدفّق اللاجئين أو دفع ثمن مشاركتنا من أمننا، وعلى الأرجح فإن هذه الحرب إذا ما أُعلنت فستكون من البحر عبر الضربات الصاروخية لتدمير مواقع استراتيجية”.

أمام الاستحقاقات المتسارعة، والإعلان الروسي أن أي مغامرة في سورية ستكون نتائجها كارثية، مع إحجام روسيا عن خوض الحرب مع أحد، على حدّ تعبير وزير خارجيتها، ومع لغة التحدّي التي حذّر بها نائب رئيس الأركان الإيراني، وأمام التهديدات المضادة السورية بإشعال كل الشرق الأوسط في حال شُنّت أي حرب على الأسد، رأى خبير عربي في العلاقات الدولية الأميركية من بيروت، أن أميركا ستكون ضرباتها محدودة من قبيل “رفع العتب”، بحيث لا يسقط النظام السوري، بل من قبيل إضعافه وسوقه إلى “جنيف 2″ ضعيفاً وليس أكثر، وأنها لو فعلت العكس وغرقت أكثر في الوحول السورية، فهي تقدّر عواقب إبعاد روسيا عن المياه الدافئة السورية، وعن الأرض السورية التي تُعتبر آخر موطئ قدم لها في الشرق العربي، كما أن أميركا تقدّر ردّة الفعل الإيرانية الانتقامية في الخليج، والصواريخ التي قد تنهمر على “إسرائيل” من إيران أو “حزب الله”، وتقدّر الكارثة الكبرى على الاقتصاد العالمي عندما تُغلق إيران مضيق هرمز، ويغدو سعر برميل النفط على مشارف 250 دولاراً أميركياً كحد أدنى.

منذ فيتنام ومروراً بكل المستنقعات التي أغرقت بها أميركا نفسها، وكان آخرها في أفغانستان والعراق، تبدو “إسرائيل” التي اشتعل الشرق من أجل تأمين أمنها عبر هدم الكيانات التي تهددها، الأكثر ارتعاداً من الأثمان التي ستدفعها من ضربات انتقامية صاروخية على مواقعها الاستراتيجية وتجمّعاتها السكانية.

في مسلسل الزلازل الذي توقّع الرئيس بشّار الأسد حدوثه في حال نُفذت الضربات على سورية، ستغرق أميركا مجدداً في وحوله، رغم أنها لن تنزل إلى برّ الشام بنفسها، بل ببوارج وصواريخ أميركية، وأدوات أوروبية، وتمويل ودعم لوجستي من ملوك وأمراء النفط، ونتيجة الحرب قد تكون بقاء الأسد رئيساً عام 2014 على سورية المشرذمة، وانحناء التاج الأردني لحل شامل، والأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين في المستقبل البعيد!

ربنا يلطف بالمنطقة العربية و الاسلامية