قصة مؤثرة لمعارض بين حشود الموالين في الطريق الى السفارة

احمد ابراهيم

في مكتبنا في بيروت يجاورنا مقر لوكالة عالمية عمل فيها عدد من المحررين والموظفين الاداريين وهم من سورية.
احدهم معارض سلمي هارب من داعش في الرقة بعدما نال شرف التعرض للضرب من النظام في بداية الاحداث بسبب مشاركته في محاولة تظاهر في تلك المحافظة التي لم تخرج فيها مظاهرات حقيقية.
الشاب العشريني من اشد المتحمسين لما يسميه " ثورة " ولا يزال.
الاختلاف السياسي مقبول، لكن الارهابي مرفوض، والشاب ليس ارهابيا (تقول زميلته الموالية ) ولا يوافق على جرائم التكفيريين.
لكن له رأي يحترمه زملائه، وإن اختلف هذا عن ذاك بحدة احيانا.
بين الموظفين الموالين في تلك الوكالة ، فتاة ميدانية خفيفة ظل تراهنت والزميل الذي سنسميه "سعيد سيروب" على انه في حال حصلت حشود امام السفارة السورية في اليرزة تزيد عن الف شخص فان سعيد سيشارك في الانتخابات بورقة بيضاء ولكنه سيحضر.
في آخر ايام تسجيل الاسماء في السفارة سجل الزميل اسمه، وكذا فعلت الزميلة الميدانية.
صباح يوم الانتخاب(امس) اختفى الزميل من المكتب وارسل رسالة نصية لمديرة الوكالة يعتذر فيها عن الحضور بسبب المرض. يسكن الشاب في فرن الشباك فكمنت له " الميدانية " على باب منزله مع سوريين اخرين من الموظفين في الوكالة
وجروه جرا الى اليرزة لينفذ شرط الرهان واليكم ما حصل في رحلته مع زميلته الميدانية (من حي الميدان في دمشق)
في الطريق الى اليرزة:
يقول الصديقان:
لم ننطلق من بيروت حتى الساعة السادسة مساء لاننا بالتأكيد شاهدنا صباحا ما الذي يحصل في الطرقات، وقررنا استعارة موتورسيكل (فيسبا) وانطلقنا في الطريقة عبر المشرفية – غاليري سمعان – طريق الحازمية.
تقول الميدانية:
كان صديق المعارض ينظر الى الحشود بألم ويؤكد ان في الامر سر ولا بد ان حزب الله ينقل انصاره الى السفارة ليحشد.
وان الحشود تلك كلها من مقاتلي الحزب المعروف بانه يملك شعبية تناصره وتذهب اينما امر قائده.
فصرنا ونحن على الدراجة نسأل ركاب الفانات وركاب السيارات والباصات والشاحنات والبيك اب والمشاة :
انتو سوريين او حزب الله؟؟
وصار كل منهم يظهر لنا هويته او جوازه وبعضهم كاد يخرج لنا قلبه الذي انا سوري.
جن الرقاوي وطار صوابه ورفض اكمال المشوار وقال:
هدول مجانين وين رايحين وليش؟؟ لك الناس عم بتموت وانتو رايحين تنتخبو
لكن طريق العودة مقفل ولا حل له سوى ان يكمل المشوار الى نهاية الطريق حتى يتمكن من تحريك الموتورسيكل في الاتجاه المعاكس نزولا.
علق الشاب وانا خلفه بجانب شاحنة فيها امرأة تقف بين عشرات النساء والاطفال وعلى يدها طفل رضيع فقال لها:
لك اختي وين رايحة بالولد ؟
قالت تلك وهي تهز طفلها بفرح:
طلعنا من بلدنا غصبا عنا وانا لست بقادرة ان احمل السلاح وكل ما املكه هو صوتي وبدي صوّت للرئيس اللي ما عرفنا قيمة الامان اللي كنا فيه على ايدو الا بعدما خسرنا بويتنا على ايدين اللي قالوا بدنا حرية. وبدنا نعملكن وبدنا نساويلكن وما عملولنا الا الدمار والضغط والسكري .
سألها : محسومة الانتخابات شو راح بتقدمي؟
قالت: محسومة والله ما محسومة صوتي وبدي انتخب فيه.
والمفاجأة ان المرأة مع من معها ليست مقيمة في بيروت بل من حلبا في الشمال، حيث يعمل زوجها والذي لم يقبل رب عمله بمنحه يوم عطلة نكاية برغبته في المشاركة بالانتخاب.
السادسة والنصف ولا يزال الطريق الى السفارة بعيد جدا، والجميع من حولنا سوري ولبنان، كله يحب بعضه، لا تأفف لا زمامير ولا شيء سوى تحية النصر واللبنانيون العالقون منهم من قال للسوريين:
شو بدكن بالحكي انا ضد الاسد بس برافو عليكن على هالوطنية على الاقل كلكن بتحبو بلدكن.
الملفت ان سيارات فارغة او تتسع للمزيد اخذت تحمل معها حين يتحرك السير مشاة لا وسيلة نقل تكمل الطريق بهم. اصبح الجميع ناقل مجاني. لا توتر لا اعصاب بل فرح واغاني وطنية سورية وهتافات وكان حفلا جماعيا يضم من في الطريق.
الثامنة والخمس واربعين دقيقة، وصلت الموتورسيكل الى جسر اللوزية حيث من المسموح هناك ترك المركبات (بما فيها الموتورات) قرب محطة البنزين ومطعم " ملك الطاووق".
من هناك عدنا مشيا باتجاه الطريق الفرعي الى السفارة وكان الماشي عائد الى بيروت مشيا ، ومضى على مشينا ثلث ساعة حتى وصلنا الى مفرق السفارة حيث اول حاجز للجيش اللبناني.
حين تصل الى ذلك الحاجز اجبرنا الجنود على الافتراق الى صفين (صف من شخص يليه اخر لا اكثر) واحد للاناث واخر للذكور، وذلك تم بعد التفتيش الدقيق والجسدي ايضا للذكور والاناث من كل الاعمار مع وجود عسكر لبناني (قوى امن) من الاناث لتفتيش .
لم يتبقى شخص امام او في محيطنا الا وسأله سعيد:
أنت سوري؟
الحشد الذي لم يماثل الحشود الصباحية ضخامة كان دفقه وسيره السريع ومن والطول انه يكفي للقول ان مئات الاف المشاركين طوال النهار قد عبره وخلفنا بعد التاسعة كان عشرات الاف المشاركين لا يزالون يتدفقون.
اثار معركة الصباح بين الجنود اللبنانيين وبين بعض الشباب المتحمس لم تنتقل الى معاملة الجنود للسوريين الواقفين بالانتظار بل كان تعاملهم راقيا وهادئا ويحترم الجميع .
قال جندي حين سأله سعيد عن مشاعره وبلده يحصل فيه ما حصل اليوم فقال الجندي: لقد صدمنا الحشد الغير المتوقع (كما صدم موظفي السفارة) ولكن فعلا نحن فرحنا لكم ايها السوريون لانكم عدتم تتفقون مع بعضكم على امر يفرحكم.
ناقش سعيد الجندي واتفقا على الكثير من الاراء لكن اللبناني انهى الحديث بسرعة قبل ان يعود الى الخلف لينظم الحشد التالي فقال:
حاربنا بعضنا في لبنان 15 سنة وفي النهاية جاء القرار بوقف الحرب من الخارج، اوقفوا الحرب عندكم بانفسكم ولو كنت سوري اقسم لكنت انتخبت رئيسكم لانه من المعيب اننا في لبنان لا نملك نفس الطريقة لانتخاب الرئيس. واكمل كلامه مع سعيد وهو يبتعد:
" فوت انتخب عني وعنك ، واللي بيهدي البلد وبيرجعها لامانها هوي الصح واللي تسبب بخرابها غلط ولو كان معو حق"
تدخل الى السفارة فتشعر بأنك في يوم الحشر، الصناديق موزعة داخل الحديقة التابعة للسفارة وحتى تصل اليها هناك رحلة جديدة.
امن السفارة من السوريين فرحون جدا واسروا الينا: ما عرفنا علقد راح يكون الحشد، الجميع في الداخل لا هم له سوى القول: " انشاء يا رب ترجع بلدنا متل ما كانت" الجميع متأكد من عودة الامن الى سورية قريبا وان كل منهم عائد الى بيته وبلده ووطنه بعد الانتخابات بوقت قصير لان الكثير منهم يظن بان الانتخاب سيجبر المسلحين على دخول مصالحات فهذا الشعب السوري لا يريد الحرب بل يريد المشاركة في اعادة الاعمار.
نساء من حلب، رجال من ادلب ودير الزور والرقة ودرعا وحمص والشام ، لهجات كل سورية في داخل السفارة، مسيحيون وسنة وعلويين واكراد وعرب، ابناء عشائر بينها ثارات قبلية تعارفوا في السفارة وتسايروا وقبلوا بعضهم بعضا وتبادلوا الارقام. ليس عرسا هو شيء اكبر فالكل يتواعد على اللقاء في سورية وكلمة السر " منشوفكن بسورية قريبا"
حين تدخل الى السفارة تجد شبابا وصبايا من الموظفين والمتطوعين، يوزعون اوراق الانتخاب، وعليها صور المرشحين الثلاثة، والمضحك ان شابا من امن السفارة قال لسعيد صدفة: " حط نعم هون هاد ابن حارتي " واشار الى صورة ماهر الحجار وضحك.
تختار من تريد من المرشحين ثم تطوي الورقة مجبرا بحسب القانون، ولا يمكن لاحد ان يشاهد من اخترت ثم تنزل الى الجهة الخلفية للباحة حيث توجد لجنة تتوزع على صناديق عدة للاقتراع فتسقط الورقة بعد ان يتفحص احد اعضاء اللجنة جواز سفرك ويتأكد من ختم الخروج والدخول ومن صحة صورتك وشخصيتك.
في طريق العودة لا يمكن سلوك نفس الطريق، إذ عليك ان تخرج من طريق خلفية عبر غابة مشجرة والجميع هنا يساعد بعضه بعضا ، نساء تحمل اطفالها يساعدهن رجال لا يعرفوهن، قناني المياه توزع، والناس توزع على بعضها ما يحتاج منهم طريق المشاة ذاك الموصل الى الطريق العام ثم صعودا حتى مكان ركن الموتورسيكل والعودة الى بيروت.
وفي العودة كان الزحام ضخم والناظر الى الصاعدين باتجاه السفارة يذهله العدد والكمية فما زال السوريون يتدفقون صعودا بعد العاشرة ليلا .
سعيد المعارض، لم يكن لديه خيار الا ان ينتخب دو ان يؤشر على اي شخص من المرشحين فتعتبر تلك ورقة بيضاء.
في مقهى بيروتي على شاطئ البحر في الروشة اجتمع الاصدقاء وكلهم من سورية ومعظمهم موالون الا اثنين، سعيد وآخر.
من انتخبت يا سعيد ؟ افصح ولا تخشى فانت ملاحق من النظام وملاحق من التكفيريين اعدائه فماذا تقول يا من لا ناقة لك في الانتخابات ولا جمل؟
سكت الشاب لبرهة قبل ان يبكي بلا خجل من الموجودين..
دموع الهزيمة ام دموع الندم ولا جواب .