مؤتمر جنيف2 إلى أين؟

إبراهيم علّوش
قال وزير الخارجية جون كيري للملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز بحسب ما رشح عن لقائهما في 17 11 2013: «إني أخبركم الآن أن أمامكم شهرين أو ثلاثة لموعد انعقاد المؤتمر. افعلوا ما تريدون وإن حققتم مكاسب فهذا شيء عظيم. نحن مهتمون بأن يصل بشار الأسد إلى جنيف 2 خاسراً ومنهكاً ولكنّ جنيف 2 يجب أن يُعقد».
معلومٌ أن مؤتمر جنيف 2 كان مفترضاً انعقاده في تشرين الثاني الفائت ليتم تأجيله شهراً ثم شهرين. ولم تكن تلك المهلة الأولى التي تمنحها إدارة أوباما لحلفائها في المنطقة ليحققوا تقدماً ميدانياً في سورية دوماً بلا جدوى. وكانت بدأت الولايات المتحدة تصل منذ الشهور الأولى للأزمة السورية إلى اقتناع بأن إسقاط القيادة السورية بعيد المنال إلى مستحيل وأنّ لا مفر من القبول بحلّ سياسيّ. حدث ذلك منذ عهد وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي لا ننسى أن اتفاق جنيف حول سورية 30 6 2012 صيغ في عهدها ولا ننسى تصريحها مطلع تشرين الثاني 2012 أن على المعارضة السورية كبح جماح «المتطرّفين» الإسلامويين ما اعتبر مؤشراً قوياً آنذاك إلى أن الولايات المتحدة في صدد تليين موقفها إزاء الحل السياسي في سورية.
كان كيري يقترب بعد ذلك ثم يبتعد من الحل السياسي في سورية إذ قال في أوسلو مثلاً في 13 3 2013 إنّ المطلوب في سورية هو حلّ تفاوضيّ يقوم على جلوس الرئيس الأسد مع المعارضة ووقف العنف على أرضية اتفاق جنيف. لكنّ الناطقة السابقة باسم وزارة الخارجية الأميركية فيكتوريا نيولاند قالت قبل ذلك بيوم ما مفاده أن تأويل الإدارة الأميركية لاتفاق جنيف يستثني القيادة السورية العسكرية والأمنية من الحل السياسي.
أيضاً كان كيري يتحدث قبل أشهر من اتفاق الكيماوي السوري والنووي الإيراني عن الحل السياسي تارة وعن الإطاحة بالأسد طوراً فكان مع الحل السياسيّ في لقائه بلافروف في موسكو في أيار ثم ضده في تصريحاته في روما متحدثاً عن ضرورة تنحي الأسد بعد ذلك بيومين إلخ.
كتبت آنذاك في 13 5 2013 أن الولايات المتحدة تمارس سياسة المراجحة في الساحة السورية وتقوم تلك السياسة على شراء العملة بسعر صرف أقلّ في هذه العاصمة وبيعها بسعر صرف أعلى في تلك وأن الولايات المتحدة «تبيع المعارضة السورية للروس وتبيع الروس للأوروبيين والخليجيين والأتراك الذين تورطوا حتى النخاع في معركة الولايات المتحدة ضد سورية وهي على أتم الاستعداد لبيع الخليجيين والاتراك للروس عندما يكون فرق السعر مناسباً. حتى ذلك الحين فإن فرق العملة ويا للأسف يبقى دم الشعب العربي السوري». ولا يزال دم السوريين يسفك لأن هذا تماماً معنى تأجيل الحل السياسي. لكن انقلاب لعبة بورصة الدم الأميركية على رأس حلفاء الولايات المتحدة بعد تفاهمات النووي والكيماوي بات يثير حفيظة حكام الخليج وأرخبيل العصابات المسلحة في سورية اليوم فيما تقدم إليهم الولايات المتحدة تطميناتٍ لا يصدقونها من ناحية وتوظفهم في مخطط إضعاف سورية واستنزافها من ناحية أخرى لتكسب على الجهتين: فإن نجحوا في تحقيق اختراق ميداني استراتيجي يقوي ذلك أوراقها التفاوضية في جنيف 2 ويدفعها إلى رفع سقف شروطها للحل وإن فشلوا فإنهم ينجحون على الأقل في إطالة أمد الأزمة ومضاعفة شلال الدم آملةً في أن يدفع ذلك سورية إلى تقديم تنازلات تحفظ ماء وجه العم سام دولياً وإزاء الجمهوريين.
نوّهتُ في مقالات أخرى إلى أن السعودية تراهن على إطالة أمد الأزمة السورية بالتحالف مع الجمهوريين واللوبي الصهيوني حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016 وإلى أن تركيا تسعى إلى تحسين علاقاتها مع إيران أما «الائتلاف الوطني السوري» فيحاول أن ينزل عن الشجرة التي صعد إليها بدفع سعودي قبل شهرين عندما طرح شروطاً تعجيزيةً للمشاركة في مؤتمر جنيف عبر الإيحاء حديثاً بأنه تلقى «ضمانات» حول أن بعض أبرز تلك الشروط سوف يتحقق والمقصود هنا بالطبع هو: تنحي الرئيس الأسد وتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تسيطر على الجيش والأجهزة الأمنية.
واضح أن مثل تلك «الشروط» غير عقلانية ولا يمكن فرضها إلاّ على قوة مهزومة وسورية متعبة وجروحها تنزف لكنها ليست مهزومة أما من يقاتلها فهو العاجز عن تحقيق أي اختراق حقيقي وعن الاستمرار إلاّ بالتغذية المستمرة التي يتلقاها عبر الحدود التركية والأردنية. وسورية ليست في وارد تقديم تنازلات وجودية طوعاً كانت عجزت العصابات المسلحة عن فرض ما هو أقل منها بكثير إكراهاً.
ليكن واضحاً أن فكرة «تنحي الرئيس» تعني فعلياً تسليم السيادة السورية لقوى الهيمنة الخارجية فمن ينحّي رئيساً يعيّن خلفه ومن ينحيّ ويعيّن يفرض السياسات التي تعجبه فمن لا تعجبه مثل تلك السياسات سيكون عرضةً للتنحية. كذلك فإن تسليم زمام الجيش والأجهزة الأمنية في مؤتمر دولي غير مقبول من الناحية المبدئية القومية وغير مسموحٌ من الناحية الدستورية السيادية. وأعلن فيصل المقداد ذلك صراحةً قائلاً: لسنا ذاهبين لجنيف 2 لتسليم السلطة.
لذا تدرك الولايات المتحدة تماماً أن تفسيرها الأعوج والخلافي لجنيف 1 لن يفرض نفسه في جنيف 2 في ظل ميزان القوى الحالي على الأرض السورية وميزان القوى الإقليمي والدولي الراهن. فالحلّ السياسي يعني التفاهم مع القيادة الموجودة حالياً في دمشق وليس مع غيرها إنّما ستحاول أن تحصل من سورية على أشياء أخرى من قبيل كفّ يدها في الصراع القومي مع الكيان الصهيوني وفرض التعاطي مع الملف الفلسطيني من خلال السلطة الفلسطينية حصرياً ومن قبيل محاولة فرض قوات دولية على الأرض السورية. لكن سورية تدرك جيداً أنها لن تبقى سورية إن قبلت بمثل ذلك. وسورية قد تناور وتمتصّ الضربات بيد أنّها لن تسقط في المحظور.