تداعيات الأزمة التركية ما زالت تتصاعد

شهدت تركيا في كانون الأول الماضي ما يعرف بفضيحة فساد بدأت بإعتقال العشرات من رجال الأمن ورجال الأعمال ونواب مقربين من النظام، وأجبرت الفضيحة أردوغان على إعادة تشكيل الحكومة بعد إستقالة عدد من الوزراء المتورطين في الفساد، وأقال مئات من ضباط الشرطة في عملية تطهير واسعة وسعى الى الحد من صلاحيات القضاء، وإتهمت الحكومة جماعة الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية النافذة في أوساط الشرطة والقضاء بالتلاعب في التحقيق القضائي الجاري لإضعاف الحكومة قبل أشهر من الإنتخابات البلدية المرتقبة في آذار، والرئاسية في آب المقبل.
رئيس الوزراء التركي الذي تنتابه حالة من الفزع الواضح والخوف على مستقبله السياسي، لم يجد ما يقوله سوى إدعاء أن كل هذا من فعل خصومه في الخارج والداخل، ولم يفهم أحد ماذا يقصد أردوغان بخصومه في الخارج، إلا أن بعض المحللين في الشأن التركي فسرها بأنها إنعكاس لإحساس أردوغان بأن سياساته الخارجية باتت لا ترضي أحداً، خاصة بعد حملات التشويه والهجوم عليه في وسائل إعلام بلدان عربية وغيرها.
وموازاة ذلك طلب أردوغان من سفرائه إبلاغ الحلفاء الإقليميين والدوليين بالحقيقة المتمثلة حسبما قال في أن تحقيق الفساد الذي يعصف ببلاده ما هو إلا نتيجة مؤامرة غادرة مدعومة من الخارج لتقويض مكانة تركيا الدولية، وأبدى في الوقت نفسه إستعداد حكومته لسحب مشروع إصلاح القضاء، وقال أردوغان للسفراء في مؤتمر بالعاصمة أنقرة “نتوقع منكم أن تبذلوا المزيد من الجهد لإحباط هذه العملية الغادرة التي تستهدف تركيا، من خلال إبلاغ شركائنا بالحقيقة”، كما شن هجوماً على جمعية يديرها الداعية التركي واتهمه بالوقوف وراء تحقيقات الفساد التي شهدتها تركيا ودعا السفراء بأن يصفوا لزملائهم الأجانب “الوجه الحقيقي لهذه المنظمة وطموحاتها ومآربها”، إضافة إلى أبعاد الخطر الذي تمثله من خلال توجيه ضربة قوية لإقتصاد تركيا وإثارة قلق المستثمرين الدوليين بهذا الشأن.
وفي سياق متصل إنعكست الأزمة الحالية على الدور الإقليمي والدولي التركي في ضوء التراجع في العلاقات التركية مع الكثير من الدول العربية، من خلال تجميد الحركة التركية فيما يتعلق بالأزمة السورية، حيث وجهت العديد من الإنتقادات لحكومة أردوغان وسياساته تجاه سوريا، فضلاً عن تورط حزبه في الإتفاق مع بعض المقاتلين الإسلاميين للعبور الى الأراضي السورية من خلال الأراضي التركية وهو ما يعنى تحول تركيا الى طرف في الصراع الدائر داخل الأراضي السورية، وتزداد إحتمالات تقييد الحركة التركية مع زيادة عدد اللاجئين السوريين في تركيا وتأثير ذلك على الداخل التركي وتركيبته الإجتماعية، كما برز التقارب الإيراني التركي على خلفية توقيع إيران لإتفاقية جنيف النووية في العام الماضي، هذا ما أدى الى تغيير طريقة تعاطي السياسة التركية مع الأزمة السورية في المرحلة الأخيرة، وضرورات التوصل لحل سياسي لهذه الأزمة، على عكس ما إلتزمت به تركيا طوال الأزمة السورية، وإستبعاد إمكانيات التدخل العسكري لإنهائها، فضلاً عن المكاسب الإقتصادية التي ستجنيها تركيا من علاقاتها بإيران في ظل التوتر القائم بين إيران والخليج، وهو ما يدفع تركيا لأن تكون حليفاً إستراتيجىاً لإيران خاصة في حال تحرك الإقتصاد الإيراني بعد تخفيف العقوبات الإقتصادية.
وفي السياق نفسه برزت بدايات التراجع في الدور والنفوذ التركي في منطقة الشرق الاوسط مع سقوط جماعة الأخوان المسلمين في مصر التي إعتبرت حليفاً إستراتيجياً هاماً لتركيا وهو الأمر الذى فرض نوعاً يشبه العزلة عليها في الشرق الأوسط، بعد أن إنهارت طموحات أردوغان في لعب دور إقليمي مهيمن في المنطقة، كما إن التوتر في العلاقات المصرية مع تركيا مرشح للتصاعد والتأزم على نحو أوضح وأكبر خلال الفترة المقبلة، فالعلاقة باتت طردية بين إستقرار مصر وتوتر العلاقات المشتركة مع تركيا، وذلك في ظل ما باتت تدركه القيادة المصرية بشأن الدور السلبي الذي لعبته تركيا على الساحة المصرية المحلية في مواجهة مؤسسة الجيش المصري، وعلى الساحة الخارجية من خلال محاولة نزع الشرعية عما قام به القائد العام للقوات المسلحة المصرية، عبر الترويج دولياً وإقليمياً بأن ما قام به الفريق أول عبد الفتاح السيسي يمثل انقلابا ًعلى رئيس مدني منتخب، بالإضافة الى حدوث نوع من التوتر في العلاقة بين كل من أنقرة وواشنطن على خلفية كشف قضايا الفساد ، وهو التوتر الذى وصل الى حد تهديد رجب طيب أردوغان بإمكانية إتخاذه الإجراءات والتدابير المناسبة ومنها إمكانية طرد سفراء بعض الدول الأجنبية، والذي كان يلمح الى السفير الأمريكي في انقرة، وذلك بعد أن إنتقد السفير الأمريكي لدى انقرة البنك الأهلي التركي والذى اتهمه بأنه يرعى التعاملات مع إيران وذلك بالقيام بتحويل الأموال الى إيران من تركيا مقابل واردات للنفط والغاز الطبيعي، وبالتالي فإن هذا النوع من التصعيد من الجانبين يبرز عدم مباركة الولايات المتحدة بوجود أردوغان في قمة النظام السياسي التركي على المدى الطويل، كما شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية إنتعاشاً تدريجياً التي تراجعت عقب الحرب على غزة في نهاية 2008 وبداية عام 2009 وتدهورت بشكل ملحوظ بعد مقتل عدد من النشطاء في اسطول الحرية على يد القوات البحرية الإسرائيلية، وبدء مؤشر هذا الإنفراج عندما تم الإفصاح عن إتخاذ الحكومة التركية بعض المواقف اللينة فيما يتعلق بحجم التعويضات الخاصة بضحايا سفينة مرمرة، والمضي في تنفيذ وتطوير إتفاقيات عسكرية وإقتصادية سابقة موقعة بين الجانبين، فضلاً عن ان العلاقات التركية الخليجية شهدت تدهوراً حاداً وخاصة الإماراتية منها بعد أن كشف رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان أمام الصحافة التركية والعالمية عن معلومات خطيرة حول تورط أبو ظبي في مخطط لإطاحة حكومته، والإضرار بالإقتصاد والشعب التركي، وبالتالي يمكن القول إن سياسة تركيا في صفر المشاكل مع دول الجوار لم تعد موجودة، وبكل بساطة لقد فشلت تركيا في التوصل الى تبني سياسة دبلوماسية واقعية حيال التغييرات التي تشهدها المنطقة على أثر الربيع العربي.
كما لا بد من الإشارة هنا الى إن ما تمر به الدولة التركية في الوقت الراهن سوف يكون عاملاً محدداً لمستقبل رئيس الوزراء التركي أردوغان، وذلك من خلال ما ستفضى إليه التوازنات الداخلية في حزبه، فضلاً عن إشتداد التنافس بين زعيمي حزب العدالة والتنمية “رئيس الوزراء أردوغان من جهة والرئيس التركي عبد الله غول من جهة أخرى”، والذي سيؤدي حتماً إلى إنقسام الحزب الحاكم، وهذا ما سينعكس على موقفهما في الإنتخابات، إذ إن شعبية أردوغان في إنخفاض مستمر، ويعني ذلك أن الحزب لن يفوز بأغلبية مطلقة في الإنتخابات البرلمانية، ناهيك عن إحتمالات عدم فوزه بالقدر الكافي من المقاعد الذي يسمح له بتشكيل الحكومة مستقبلاً.
وبالتالي يمكنني القول إنه بعد ان عصفت قضايا الفساد أركان الدولة التركية، فإن إنعكاسات تلك القضية ستؤثر بما لا يحمل مجال للشك على السياسة الخارجية التركية بشكل عام وعلى دورها الإقليمى المنشود على وجه الخصوص، حيث فشلت الحكومة التركية في قراءة تحولات المنطقة منذ إندلاع ثورات الربيع العربي وما كانت تسعى تركيا إليه من فرض الهيمنة والسيطرة، وبالتالي فإن الخاسر الوحيد أردوغان بعد أن إختار المواجهة مع بعض المعارضين وعلى رأسهم جماعة فتح الله غولن.
وأخيراً أختم مقالتي بالقول، إن تركيا تشعر بخيبة أمل كبيرة لما آلت إليها سياستها الخارجية ولاسيما تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط من خلال فشل سياستها في عدم خلق خلافات مع دول الجوار إذ تعاني تركيا من نوع من العزلة الإقليمية خاصة بسبب تأييدها للرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وبدلاً من أن تؤدي هذه السياسة إلى تحالف بين الدول الإسلامية يغني أنقرة عن التوجه إلى أوروبا، أو يتيح لها التفاوض مع الاتحاد من موقع قوة، أفضت إلى خلافات عميقة بين “السلطنة” ومحيطها، خلافات مع العراق ومصر، ومشاركة فعالة في ضرب ليبيا وتخريبها، وتورط في تفاصيل الحرب السورية، على أمل توسيع هيمنتها في بلاد الشام، بالتفاهم مع بروكسيل وواشنطن، وإسرائيل بطبيعة الحال.