يومٌ مات فيه المستحيل

نبيه البرجي

«هوذا اليوم الذي اضأنا فيه القمر…» قال لوي اراغون حين غادرت الدبابات النازية باريس. نحن اضأنا كل شموع الارض، وكل شموع القمر, حين قهرنا الذين لا يقهرون.
هو يوم لنا، لا للطوائف ولا للمذاهب، ولا لملوك الطوائف ولا لملوك المذاهب. دعونا نبحث عن اللآلئ في اقاصي القلب.

هو اليوم الذي مات فيه المستحيل. وضع يوشع بن نون ما تبقى من عباءته، ما تبقى من عظامه, على كتفيه ورحل. بأسى سأل الحاخام النيويوركي صمويل هاينمان «هل تركنا الله لهؤلاء الذئاب؟»، ولطالما استعمل الحاخامات الله على انه القاتل الذي يتقدم الصفوف. كم كان باروخسبينوزا فذاً حين قال «الله لا يقتل مرتين». هم حاولوا ويحاولون ان يقتلوه المرة تلو المرة.
ارييل شارون قال لاوريانا فالاتشي في صيف عام 1982(النوفيل اوبسرفاتور) ان الجنرالات يعلمون اننا عندما نتراجع خطوة واحدة الى الوراء فلن تبقى هناك اسرائيل. من لم يشاهد الجنرالات وهم ينتحبون. قال يهوشوا ساغي «انه العار»، وكتب عاموس اوز «لماذا يفترض بالدبابات ان تكون حزينة الى هذا الحد؟» لا بل كتب ساخراً او ممزقاً ( هكذا قال) عن الدبابات التي كانت تتوكأ على العكازات.

ساغي ما لبث ان قال وهو يرى كيف يبكي الجنود، انه يعتذر من… العار!ّ

وكان ثمة من حوّل الثورة الفلسطينية الى كوميديا. ثورة تحت الثريات. هل حدثكم احد عن ليالي شهرزاد؟ وهل حدثكم احد عن ذلك المسؤول الامني الكبير الذي اخترق خط التماس وحوّل منزله الى كازينو للقمار؟.

وقال ارييل شارون ان دباباته ستذهب لتدمير الآلة العسكرية لمنظمة التحرير الفلسطينية، دمرها، واقامت الهولوكوست الفلسطيني في مخيمي صبرا وشاتيلا. لن يهتز احد في ذلك العالم الذي وصفه اوكتافيو باث بـ «ذاك الذئب الذي من الكريستال». مناحيم بيغن قال منذ الستينات من القرن الفائت، وبالحرف الواحد «العالم لا يحترم المذبوحين بل يحترم المحاربين».
نحن المحاربون… ولقد حاربنا ولقد انتصرنا. اولئك الخارجون من عشب الارض، والذي يشبهون عشب الارض هم الذين مزقوا الاسطورة ارباً ارباً حين كانت جيوش العرب، ودبابات العرب، وحين كان جنرالات العرب يعودون حفاة من ارض المعركة.

يوم 24 آيار، قبل العيد بيوم واحد، اي عيون كان يمكن ان تتسع للمشهد. عيون الثكالى اياها. لم يعد الموتى تحت الارض. الهواء عاد الهواء، والتراب عاد التراب، والله عاد الله. اولئك الذين مزقوا الاسطورة هم… الاسطورة.

ماذا تنتظرون من العرب، حيناً بعباءة شهريار وحيناً بعباءة امرئ القيس (قفا نبك..) اكثر من تلك المبادرة الديبلوماسية العرجاء، بل والشمطاء، التي اقروها في بيروت. كانت دبابات ارييل شارون تقتحم مخيم جنين وتقتل النساء والاطفال بل وتقتل اكواخ التنك, قبل ان يتم نزع اعلام اكثر من عشرين دولة عربية من امام فندق فينيسيا في بيروت.

قالوا بالخيار الديبلوماسي الذي لا بديل عنه، وقالت اسرائيل بالخيار العسكري (والبربري) الذي لا بديل عنه. هل لاحظتم كيف يبدو العقل الاستراتيجي العربي كما لو انه عقل.. الذبابة؟
ولكن متى عاملنا الاسرائيليون على اننا مخلوقات بشرية ونشبه المخلوقات الاخرى؟ من شاهد منكم احذية الجنود المصريين على رمال سيناء؟ حقول نهائية من الاحذية. وقلنا اننا لن نثأر للجنود فقط بل سنثأر حتى لاحذيتهم، اذا كان للعرب ان يستذكروا، اذا كان للساسة وللجنرالات في مصر ان يستذكروا (ثم يديرون ظهورهم)، حين كانت جنازير الدبابات الاسرائيلية تسحق الاسرى..

في ذلك اليوم، في ذلك الجنوب، غسلنا كل الانين. تغير شكل ايدينا، وتغير شكل عيوننا، وقهرنا الذين لا يقهرون. اجل قولوها المرة تلو المرة وقهرنا الذين لا يقهرون، دون ان تعنينا سذاجة بل وبلاهة اولئك الذين راحوا يشيعون، وما زالوا، بان الاسرائيليين رحلوا بسبب صفقة دولية او بسبب مناخ دولي ما. هل قرأ هؤلاء ما قاله ديفيد غروسمان «انه يوم الهاوية»؟

في تموز 2006 كان يوم آخر للهاوية. اعتدنا ان نسمع قهقهاتهم في كل الحروب مع العرب (اي عرب ؟). في ذلك اليوم اللبناني العظيم، اليوم اللبناني ويظل لبنانياً الى الابد، كان بكاء الجنود الاسرائيليين يثير ذهول العالم. ولقد جثوت على تراب وادي الحجير وبكيت..

اوديتنا في لبنان مثل جبالنا شاهقة. النصرللجميع لان التاريخ للجميع ولان الحياة للجميع , ولان الارض للجميع…

نعود الى كلام ارييل شارون. قال ان الغاية من حرب 1982 تدمير الآلة العسكرية لياسر عرفات الذي توّج نفسه ملكاً على لبنان. دمروا الآلة العسكرية، وخرج الفدائيون» (اي فدائيين؟) ومعهم بنادقهم، فلماذا بقي الاسرئيليون ثمانية عشر عاماًفي لبنان؟

للتوضيح فقط. الفدائيون الفلسطينيون هم الذي قاتلوا وسقطوا لا الذين شاهدناهم، بالعين المجردة، وهم ينتشرون في ملاهي الحمراء حينما كانت الطائرات الاسرائيلية تنثر انذاراتها فوق بيروت.

لكنها الكوميديا العربية اياها، وقد حطمها المقاومون في لبنان لتعود ثانية من باب آخر، ومن ابواب اخرى. من قال ان المهرجين يصنعون التاريخ؟

يوم25 آيار هو يوم لنا، لكل اللبنانيين دون استثناء. وحين نقهر الذين لا يقهرون ما بالنا نمضي في القهقرى، قبائل ومذاهب، كهوفاً ومقابر؟

هذا اليوم البهي، وحيث العودة الى اقاصي القلب، كيف لا نكون يداً واحدة، نتجاوز جراحنا وآلمنا، نتجاوز اخطاءنا وخطايانا، ونعلن ان ارضنا هي ارضنا ووطننا هو وطننا؟