أسماء من ذهب أحمد بن بله.. وهـج المناضلين

نعت الجامعة العربية أحمد بن بلة، المناضل الجزائري الكبير ضد الاستعمار الفرنسي بقولها: كان قائداً فذاً ومجاهداً صلداً وبطلاً شجاعاً في مقاومة الاستعمار والهيمنة بأشكالها كافة.
.. كلام جميل كنا نتمنى ألا يكون من نوع تدبيج الكلام في حضرة رحيل قائد صنع للأمة تاريخاً مشرفاً وهو رغم الغياب والتغييب بقي ساكناً ضميرها وضمير كل عربي أصيل مؤمن بعروبته وبأمته سيدة حرة من كل أغلال التبعية والهيمنة الامبريالية.. فهذا ما كان يؤمن به بن بلة وهذا ما ناضل لأجله حتى آخر لحظة في حياته، ولا نعتقد أن الجامعة العتيدة اليوم في الخط ذاته وهي المستجرة من قبل بعض تابع يكرس تبعية الأمة لأعدائها ويشارك في تفكيكها وتسليمها لقمة سائغة لهم.
الجامعة العربية بذلك البعض التابع الخائن لم تخجل في حضرة رحيل بن بلة، لم تطرق الرأس ندماً ولو لبرهة، لم تترك لضميرها أن يأخذ فسحة ليعيد تقييم الأولويات فتكون الأمة ومصالحها فوق كل الاعتبارات والمصالح.. مع ذلك فنحن منذ زمن لم نعد نتأمل منها خيراً، ولكننا استحضرنا ذلك النعي لنقول: إن فاقد الشيء لا يعطيه لذلك لم يكن ما ذكر أولاً إلا من نوع تدبيج الكلام.
ما يثير مرارتنا في حضرة الرحيل الكبير لبن بلة ليست مواقف ذلك البعض فقط، بل في أقلام كتاب وصحفيين نعوا بن بلة بوصفه البطل الثائر ضد الاستعمار والهيمنة الإمبريالية الغربية وهؤلاء هم أنفسهم من يستجلبون ويشاركون اليوم في مشروع استعماري جديد ضد الأمة تحت مسمى الربيع العربي وهو نفسه مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنته الولايات المتحدة جهاراً نهاراً لقلب المنطقة رأساً على عقب وتقسيمها وتفتيتها إلى دويلات لخدمة هدف واحد وحيد هو (إسرائيل).
لكن الولايات المتحدة وجدت في تسمية الشرق الأوسط الجديد تسمية منفردة لشعوب المنطقة ومخجلة للمنضوين تحت لواء ذلك المشروع باعتبارها تسمية تكشف الغطاء عنهم وتظهر عمالتهم وخيانتهم فارتأت استبدالها بتسمية أخرى ووقع الاختيار على «الربيع العربي» كعنوان جاذب شعبياً وحافظ لماء وجه ذلك البعض الذي لم يتقن التماشي مع تلك التسمية المجملة وفشل في تلبسها فمن في نفسه علة أو عاهة لا بد أن تظهر مهما حاول إخفاءها.
أي من هؤلاء الكتاب والصحفيين، وهو يسرد المحطات النضالية التاريخية في حياة بن بلة لم يذكر أو يشر من قريب أو بعيد، إلى أنه كان أول من رفض ذلك الربيع، وهو القائل في إحدى تصريحاته الصحفية: لا أريد ربيعاً عربياً في الجزائر..
.. هذا طبعاً ليس ذماً بالربيع وليس لأننا لا نحتاج فعلاً إلى ربيع تزهر فيه الأمة من جديد، لكن بن بلة الذي لا تخطئ بوصلته الثورية الوطنية والعربية لم يجد في «ربيع العرب» إلا خراباًً يشهده ونشهده في دول ذلك الربيع يوميا.
هؤلاء الكتاب والصحفيون نعوا بن بلة كآخر الأبطال، أبطال النضال العربي المجيد، وكأنهم يحكمون على الأمة التي أنجبته بالعقم والزوال، متناسين عمداً أو جهلاً أن الأمة العربية أمة حية معطاءة وولادة وتزخر بالأبطال من أمثاله اليوم وفي المستقبل كما في الأمس.هؤلاء المتباكون على المناضلين العظماء هم أنفسهم من يكرسون اليوم بدلاء لهم على النقيض تماماً وهم من يغيبون ويدفنون كل وطني لتتحول الأمة معهم إلى أمة تأكل أبطالها.
رحيل بن بلة كان أقوى من أن تغيبه كوارث الربيع العربي أو أن تتجاهله الساحة العربية فالحداد على رحيله لم يكن جزائرياً فحسب بل كان عابراً للحدود، كان رحيلاً عربياً وفي بعضه غير عربي ففرنسا المستعمر السابق للجزائر نعته كصانع للتاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين.
قيل الكثير في رحيل بن بلة ، وقد لا نضيف شيئاً عما قيل وذكر لكننا نواصل استحضاره في زمن عربي صعب وعصيب لأن الأمة اليوم أحوج إلى كل أبنائها من أمثاله ممن لا يخطئون المسار ولا يتبدلون مع تبدل الزمن والمصالح.
ولد بن بلة في مدينة مغنية جنوب مدينة وهران في 25 كانون الأول من عام 1916 لأسرة تعمل في الزراعة.. استكمل دراسته الثانوية في مدينة تلمسان، وكانت تلك المرحلة مرحلة تحولات عالمية كبيرة خصوصاً في الدول العربية فتشكل لديه وعي وفكر نضالي خاص نضج بشكل متواصل باعتباره كان في قلب الأحداث التي ألمت بوطنه الجزائر وبأبنائها على يد المستعمر الفرنسي.. كان يتابع ويتلقف كل ما يأتي من المشرق العربي خصوصاً من مصر الأمر الذي عزز حسه وانتماءه القومي والوطني.
بعد الثانوية خضع كبقية الشباب الجزائري للتجنيد الإجباري في جيش الاحتلال الفرنسي وبناء على ذلك شارك في الحرب العالمية الثانية مثله مثل آلاف الشبان الجزائريين.
بعد انتهاء الحرب حدث التحول الحاسم في مساره وفي مسار حركة النضال الجزائرية، فمع احتفال فرنسا والحلفاء بالانتصار على ألمانيا النازية في 8 أيار 1945 هب الجزائريون في انتفاضة عارمة لمطالبة المستعمر الفرنسي الوفاء بوعده وإعطاء الجزائر استقلالها فما كان من هذا المستعمر إلا أن طارد المنتفضين بالمدفعية والطيران الحربي لينتهي ذلك بمذبحة راح ضحيتها عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الجزائريين.
المذبحة روعت الجزائريين وبن بلة وهو كان عايش بالأساس عنصرية وجرائم الجيش الفرنسي ضد المجندين الجزائريين عندما كان في صفوفه.
انخرط في الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي وانضم إلى عدة حركات ثورية قبل أن يكون أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1954 .
لاحقته سلطات الاحتلال الفرنسي واعتقلته عام 1950 وسجنته سبع سنوات قبل أن ينجح في الهرب ويتوجه إلى مصر- عبد الناصر، لينضم إلى رفاق له هناك.. احتضنته مصر وتشكلت علاقة صداقة وثيقة جداً بينه وبين عبد الناصر، واستمر وفياً لها حتى آخر أيام حياته.
استمر الاحتلال الفرنسي بملاحقة بن بلة وتمكن من خلال عملية قرصنة جوية من اعتقاله قبل أسبوع واحد من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حيث أجبرت الطائرة التي كانت تقله من المغرب إلى تونس مع خمسة من رفاقه المناضلين إلى تغيير مسارها إلى فرنسا حيث أودع الجميع في المعتقل.
لكن الثورة التي أوقد جذوتها لم تنطفئ واستمرت حتى نالت الجزائر استقلالها عام 1962 مع وصول شارل ديغول إلى الحكم، وبعدها أطلق سراح بن بلة ليعود إلى الجزائر ويكون أول رئيس لها بعد الاستقلال.
انكب بن بلة على إعادة بناء الدولة الجديدة من الصفر، فالاحتلال الفرنسي اخلى الجزائر من كل الكوادر العلمية والخدماتية، وحسب بعض المؤرخين وصل الأمر لدرجة أنه أخذ معه حتى خرائط الصرف الصحي.
لم يكن هناك قضية عربية إلا وكان بن بلة رافعاً لواءها وعلى رأسها فلسطين لذلك أشاد مراراً ببطولات حزب الله في مواجهة العدو الإسرائيلي ويقول عن حرب تموز 2006 التي انتصر فيها الحزب: بعد حرب الجزائر مع فرنسا لم تحدث لغاية الآن حرب بهذه الأهمية إلا تلك الحرب بحيث استطاع حزب لا يملك طائرات حربية ولا دبابات إذلال (إسرائيل) المدججة بالسلاح وطردها من لبنان..ويضيف : لو كان عبد الناصر حياً اليوم لكان اعتز مثلي بأن يكون جندياً في صفوف حزب الله.
رئاسة بن بلة لم تطل وبعد ثلاث سنوات فقط انتهت على أيدي رفاق السلاح أنفسهم، فكل ثورة كما يقال تحمل في طياتها التباسات وصراعات تتوارى خلال الثورة خلف الكواليس ومع تحقيق الهدف تبدأ بالظهور على السطح.
في عام 1965 أبعد رفاق السلاح بن بلة إلى المعتقل ليمضي 15 عاماً.. ترك لهم السلطة بهدوء لم يحقد, لم يهاجم أياً منهم، لم ييأس, لم يفقد إيمانه بوطنه وعروبته ولم يفقد إيمانه بالثورة والنضال من أجل الجزائر.
استغل سنوات الاعتقال للتثقف أكثر والاطلاع على فكر كل التيارات والأهم أنه تعلم اللغة العربية وأتقنها، وكما كان يقول فإن أكثر ما أحزنه في وقت من الأوقات أنه اضطر لاستقبال عبد الناصر بعربية مكسرة عندما جاء إلى الجزائر للاحتفال مع شعبها بانتصار ثورته.
في عام 1980 أطلق سراح بن بلة في عهد الشاذلي بن جديد فكان أول ما فعله التوجه إلى مصر لزيارة ضريح عبد الناصر ثم اتجه إلى فرنسا وبعدها إلى سويسرا كمنفى اختياري.
في سنوات المنفى لم تهدأ الثورة عند بن بلة، فقد أعلن نفسه معارضاً واستمر يطالب بحياة سياسية تتسم بالديمقراطية وحقوق الإنسان.
في عام 1991 عاد إلى الجزائر، وخاض الانتخابات في ذلك العام لكنه لم يفز فيها، فمع عودته تلك كان التيار الإسلامي الجارف ممثلاً بجبهة الإنقاذ قد غطى على الجميع ليقود البلاد إلى أحداث دامية.
غادر بن بلة الجزائر مجدداً ثم عاد عام 1999 ليساند جهود الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لإحلال المصالحة الوطنية في البلاد.
في عام 2007 تولى منصبه الأخير وهو رئاسة مجموعة الحكماء في الاتحاد الإفريقي كما انخرط في عدة مبادرات لاحتواء أزمات عربية أو تسوية نزاعات إفريقية.
في 11/4/2012 رحل بن بلة عن 96 عاماً وهو لا يزال بنفس الوهج النضالي وهج المناضل من أجل الجزائر وكل العرب.