ملاحظات علي مشروع الدستور الليبي
منتديات الدفاع عن الجماهيرية الليبية و سوريا العروبة :: المنتديات السياسية :: منتدى الأخبار العاجلة الليبية
صفحة 1 من اصل 1
ملاحظات علي مشروع الدستور الليبي
المؤتمر الصحفي لاعضاء الهيئة التاسيسية لصياغة الدستورعقب جلسات المشاورات في سلطنة عمان
بقلم الدكتور ابراهيم ابوخزام
أستاذ القانون الدستوري بالجامعات الليبية و رئيس لجنة أعداد الدستور قبل نكبة فبراير
بين أيدينا ؛ وثيقة ؛ تحت اسم ( مخرجات لجنة العمل 2 ) المقدمة من الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور ، وهي فيما يبدو ، الوثيقة شبه النهائية ، التي قد تعرض علي الشعب الليبي ، باعتبارها دستورا للدولة ، وباعتباري مواطنا ليبيآ ، شاءت الاقدار وحظوظه ، دراسة القانون الدستوري والكتابة فيه ، فقد رأيت ان أدوّن ، ما يتيسر من ملاحظات ، لعلها تفيد من وضعتهم الاقدار-ايضا- للتصدي لمهمة كتابة الدستور ، بعد تفكير ،كان من الواجب ، ان يكون عميقا ،وذلك قبل ان يفلت ما كتب ،وبوضع بين يدي الناس للاستفتاء عليه .
والحق ، انني اشعر بخيبة أمل ، فقد تصورت ، أن الجهد المبذول والوقت الطويل والاموال المصروفة ، اذا مزجت بطريقة صحيحة ،لابد ان تنتج للبلاد ؛ وثيقة ؛ تدعو للزهو والافتخار ، لكن الرياح ، عصفت كثيرا وأخذت الشراع نحو شطان بعيدة ، ولم يتبق بعد ذلك غير الدعاء .
وليس في النية ، وهو ليس في الإمكان أيضا ، عرض مشاكل هذا المشروع أو مواطن الاخفاق أو التوافيق فيه ، أما الممكن في هذا الوقت العاجل ، ليس سوي عرض بعض الأفكار العامة ، عن ( أصول صناعة الدساتير ) وهي أفكار قد تدفع للتروي والتفكير ، قبل التعجل والاندفاع نحو وهم النجاة بواسطة دستور معيب ، فمن غرائز الشعوب التعلق بأي أمل ؛ عند المحن والخطوب .
تدل التجارب الانسانية ، علي ان أفضل الدساتير ، تقيدت بما يلي :-
أولا... ان الدساتير ، بما لها من إجلال ، لا توضع ؛ في الأصل في ظروف " التوتر والصراع " فالدستور ؛ في جوهره " عقد اجتماعي " تبرمه جماعة بشرية بارادتها الحرة ، يقوم علي الرضا غير المنقوص ، وهو من حيث فلسفته ، الاداة المثالية لتنظيم الصراع .
إن واحدة من روائع الجهد البشري في التطور نحو العقلانية ، كانت اختراع فكرة القانون الذي بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر ، وبظهور اول دستور حديث مكتوب ، ومنذ ذلك التاريخ ؛ انعطفت الانسانية انعطافا هائلا نحو الاستقرار وخفض الصراع .
ولكي يحقق الدستور غاياته ، فان الامم المتحضرة ، تذهب الي صناعة دساتيرها في ظروف الهدوء والاستقرار ، ففي هذة الظروف ، يولد التوافق وتتحرر الإرادة ويبلغ الحماس الوطني ذروته ويولد الدستور باعتباره تعبيرا عن التوازنات الطبيعية في المجتمع وانعكاسا للرغبة في العيش المشترك ، اما حين يوضع الدستور في ظروف الصراعات المريرة والحروب الأهلية المدمرة ، فانه يتحول الي اداة مغالبة ووسيلة ارغام ؛ تفرضهاالجماعات الاقوي ؛ ليس للحفاظ علي توازنات المجتمع ؛ بل تكريس انتصار زائف ، وهي بذلك تؤجج الصراع ، ويتحول الدستور المفروض ، الي ظاهرة ظلم وليس أداة للتوافق .
ولا يوجد في تاريخ الدول والدساتير ، مثال واحد ؛ لدستور استطاع ان يعيش ؛ اذا تَخَلَّق في ظروف التوتر ، وعلي العكس فأن الدساتير الراسخة ، هي التي صنعت في ظروف الهدوء والزهو الوطني بعد استقلال مجيد او اتحاد أمة مقهورة، فقد انتظرت الولايات المتحدة ، عقد كامل ، بعد اعلان استقلالها لتكتب دستورها ؛ وعمره اليوم يزيد عن قرنين ، اما فرنسا ، وهي " مختبر الدساتير " فقد سقطت كل دساتيرها في وقت سريع ، بسبب وضعها في ظروف الصراع ، ولم يعش منها سوي دستور الجمهورية الخامسة ،الذي صنعته قيادة عظيمة بعد انحسار الأزمة .
إن وضع دستور ليبيا في هذة الظروف المليئة بالتوترات والصراعات العنيفة ، هو ؛ في ذاته ؛خطأ فادح ، نجم عن سذاجة سياسية ، تصورت أن الدساتير ؛ مفاتيح ألية لبناء المجتمع الديمقراطي ؛ دون اهتمام بأول شروط الديمقراطية ؛ وهو شيوع ثقافتها ووفره مناخها ، وحين يوضع الدستور ؛ في هذة الظروف ، فأنه سيكون تكريسا للمغالبة وإخلالا جسيما بالتوازنات الطبيعية للمجتمع ، مما يؤجج الصراع ويفتح أبواب جديدة للعنف .
ما من شك ، ان الدستور حاجة أساسية من حاجات الدولة المعاصرة ، عند نهاية الصراع وعودة الحياة الي مجراها الطبيعي ، لكن فترة الاضطراب ، تتطلب لمعالجتها ، افكارا ابداعية مبتكرة ، وهي ماكان يعوز الذين قادوا البلاد نحو هزاتها.
ثانيا... تنبع أهمية الدساتير من كونها الهرم للبنيان المؤسساتي والقانوني للدولة ومصدر طمأنينة المواطنين ، وهي قبل ذلك انعكاس امين لقيم الدولة المنبعثة من حضارتها وتاريخها وتراثها ، فالدستور لم يعد منبعا للقوانين ومقياسا لسلامتها وليس نصوصا لفض النزاعات او أداة لتنظيم صراعات السلطة او تعبيرات جوفاء عن الأحلام الواهية ، بل هو تعبير عن " رؤية أمة " دفعت البعض بوصفه " طريقة الحياة " لأمة ما ، وهو بهذا المعني مشروع حضاري متكامل ، يضع الأساس لحياة أجيال كثيرة قادمة ، وإذا حدث أن وضع الدستور علي أسس واهية او أفكار ظرفية معطوبة ، فأن الدولة برمتها تغدو عرضة للخطر .
تنطوي الدساتير ، علي معاني كثيرة وأبعاد حضارية وثقافية وتربوية متنوعة ، فهو مفخرة للأمة وأداة لتربية أجيالها ، وهو ما جعله في موقع قريب من " القداسة " تحرص الأمم علي دقة صياغته وتحشد من أجل ذلك ؛ أفضل عقولها ، لكتابته بأفضل الصيغ ، دقة في الأحكام وجمال في اللغة ، تجعله أشبه بتراتيل الأديان و أشعار الفخر ، وفي اعظم الدول رسوخًا في مدارس الفكر والفلسفة والقانون ، لا يتم التحرج من الاستعانة بافضل الخبراء ، لكتابة الدستور بافضل الصيغ وأشدها بلاغة واحكاما .
أغلب الظن ، ان المعاني قد فاتت علي الذين وضعتهم الاقدار في طريق الدستور ، وقد جري الخلط ، وسط الفوضي العارمة ، بين ضرورات الديمقراطية وكتابة الدساتير ، واغلب الظن أيضا ؛ ان الديمقراطية ؛ عند أدني مراتبها ، وقد تغلبت لتفرض سلطانها علي كتابة الدستور ، فهناك من تصور ان الجمعيات المنتخبة ، كيفما اتفق ، هي الأسلوب الأمثل لصناعة الدساتير !!
ثالثا...نظرا لمكانة الدستور وأهميته في الهرم القانوني للدولة باعتباره وعاء للمبادئ الرئيسية لنظام الدولة القانوني ، هي محدودية " مشتملاته " فهو لا يعالج غير القضايا الكبير التي لا تخضع للتغير المستمر والتبدل الدائم ، اما غير ذلك من شئون الحياة ، فهي حقول واسعة للقوانين واللوائح والتدابير ، ولعل أسوأ سقطات المشرع الدستوري ، حين ينغمس في فضاء غيره ، وهناك اليوم ما يعرف ب " العقيدة الدستورية " وأول لوازمها التفريق بين الشأن الدستوري وغيره .
أن موضوعات الدستور واهتماماته ، لا تزيد في العادة ، عن خمسة أو ستة موضوعات ، تتعلق بتنظيم سلطات الدولة ونظام الحكم ،الحريات الاساسية وحقوق الانسان ، هوية الدولة وثوابتها الرئيسية ، توجهاتها الكبري في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية ، نظام مراجعة الدستور وخصوصيات الدولة ان وجدت .
ان هذة العقيدة ، هي التي جعلت الدساتير ، عملا موجزاً قصيرا ، فقد كتب الدستور الامريكي في سبع مواد ، كانت من بينها مادة واحدة ، تعالج وظيفة رئيس الدولة ، بكل ما لديه من جبروت ، اما دستور فرنسا فهو " 89 " مادة ، وذلك هو سبب الحياة .
ان ما بين يدينا من مشروع ، اخل إخلالا جسيما ، بأصول صناعة الدساتير ، حين انحدر لفضاء اللوائح والتدابير ، ولا اعرف اذا كان مشرعنا الدستوري ، علي معرفة بان الدساتير ، يتبعها فور صدورها سلسلة من القوانين " الاساسية " لاستكمال بنية الدستور ، ولأنه علي أغلب الظن لا يعرف ، فقد حشر معظم هذة القوانين في صلب الدستور ، وهو ما سيؤدي الي ضياع الدستور في متاهات غيره .
ان ذلك هو ما جعل المشروع خلطة غريبة ، أخشي ان تكون خلطة سامة ، فقد امتلأ المشروع بالتناقضات الكثيرة ، الناجمة - علي الأرجح - عن الرغبة في ارضاء النزعات المتعارضة والمخاوف المتبادلة ، فجاء الدستور اقرب لرسالة اطمئنان فرضتها الهواجس ، منه الي ميثاق جماعي لبناء وطن.
رابعا... لعل " أم الكوارث " عند صياغة الدساتير ، هي الصياغة اللغوية البائسة ، فمن طبيعة الدساتير كتابتها بلغة بليغة وعبارات محكمة ، حتي انه أصبح شائعا في أوساط رجال القانون ، ما يعرف ب " لغة الدساتير " والأدب الدستوري ، للدلالة علي قوة النصوص ومهارة الصياغة .
ان صياغة الدساتير ، ابعد بكثير من نظم الكلمات والاحكام ،التي يتعهدها أي رجل قانون ، مهما كان علمه ودرجة تفقهه ، فالصياغة الدستورية ؛ لا يكتفي بانطواء النص علي المضمون القانوني ، بل يجب ان تصب النصوص في كلمات وجمل ، تنطوي علي الدلالة والبلاغة والإيقاع ، ففي نصوص الدساتير تناغم شبيه بالطرب الموسيقي ،وقد شاع في أوساط رجال القانون ، أن الدكتور " عبدالرزاق السنهوري " وهو من اعظم فقهاء القانون ، في القرن العشرين ، وأكثر العرب شهرة في صياغة القانون ، شاع انه كان لا يقبل النصوص التي لا تنطوي علي " رنين " حتي اذا وجدها ؛ كافية الدلالة ، فالنص الدستوري ؛ يجب أن ينطوي علي " رنين خاص " وحالة جمالية ، تستطيع ان تلاحظها ، في كل نص تعهدته أيدي الدكتور السنهوري .
ليس فيما بين أيدينا من مشروع ، حالة رنين واحدة ، فاللغة ركيكة مفككة ، لا توحي بوجود قدرة علي سماع رنين النصوص ، حتي وان كانت قادرة علي صياغة الأحكام ، واغلب الظن ان ضعف الصياغة ، ناجمة عن عدم فهم ابعاد قيم الدستور الحضارية والثقافية والتربوية ، ففي الدستور طابع جمالي، وحين يفتقد هذا الطابع ؛ فأنه يتحول الي نص لا ينبض بالحياة ؛لا يثير الحماس او يشعل الروح الوطنية أو يجلب الافتخار .
خامسا ....أن الدستور ، بصرف النظر عن جمال الصياغة ، فهو منجم للأفكار الفلسفية والقانونية العميقة ، عندما يشيد علي النظريات والأفكار الانسانية ، وينطوي علي طابع الإبداع في بناء المؤسسات علي وجه يلائم ثقافة الشعب وتجاربه وتراثه ، اما حين يكتفي باستيراد الأفكار والمؤسسات ، فانه يتحول الي سلعة معطوبة تعفنها رطوبة البحار ،وليس في ظني ، في هذا المشروع ، صورة من صور الإبداع ، فهو خلطة " نظم " لا تقوم علي عبقرية وطنية صافية أو نظرية سياسية متماسكة أو فكرة دستورية واضحة ،وتلك هي الجزء غير المنظور من الدستور الكلي ومصدر الثراء للفقه الدستوري التي تساعد علي التفسير والتأويل والتطوير .
وبعد... فليس من الحكمة ، محاولة قطف الثمار قبل نضجها ، اذ ستتكشف مرارتها ، بعد فوات الإوان
أستاذ القانون الدستوري بالجامعات الليبية و رئيس لجنة أعداد الدستور قبل نكبة فبراير
بين أيدينا ؛ وثيقة ؛ تحت اسم ( مخرجات لجنة العمل 2 ) المقدمة من الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور ، وهي فيما يبدو ، الوثيقة شبه النهائية ، التي قد تعرض علي الشعب الليبي ، باعتبارها دستورا للدولة ، وباعتباري مواطنا ليبيآ ، شاءت الاقدار وحظوظه ، دراسة القانون الدستوري والكتابة فيه ، فقد رأيت ان أدوّن ، ما يتيسر من ملاحظات ، لعلها تفيد من وضعتهم الاقدار-ايضا- للتصدي لمهمة كتابة الدستور ، بعد تفكير ،كان من الواجب ، ان يكون عميقا ،وذلك قبل ان يفلت ما كتب ،وبوضع بين يدي الناس للاستفتاء عليه .
والحق ، انني اشعر بخيبة أمل ، فقد تصورت ، أن الجهد المبذول والوقت الطويل والاموال المصروفة ، اذا مزجت بطريقة صحيحة ،لابد ان تنتج للبلاد ؛ وثيقة ؛ تدعو للزهو والافتخار ، لكن الرياح ، عصفت كثيرا وأخذت الشراع نحو شطان بعيدة ، ولم يتبق بعد ذلك غير الدعاء .
وليس في النية ، وهو ليس في الإمكان أيضا ، عرض مشاكل هذا المشروع أو مواطن الاخفاق أو التوافيق فيه ، أما الممكن في هذا الوقت العاجل ، ليس سوي عرض بعض الأفكار العامة ، عن ( أصول صناعة الدساتير ) وهي أفكار قد تدفع للتروي والتفكير ، قبل التعجل والاندفاع نحو وهم النجاة بواسطة دستور معيب ، فمن غرائز الشعوب التعلق بأي أمل ؛ عند المحن والخطوب .
تدل التجارب الانسانية ، علي ان أفضل الدساتير ، تقيدت بما يلي :-
أولا... ان الدساتير ، بما لها من إجلال ، لا توضع ؛ في الأصل في ظروف " التوتر والصراع " فالدستور ؛ في جوهره " عقد اجتماعي " تبرمه جماعة بشرية بارادتها الحرة ، يقوم علي الرضا غير المنقوص ، وهو من حيث فلسفته ، الاداة المثالية لتنظيم الصراع .
إن واحدة من روائع الجهد البشري في التطور نحو العقلانية ، كانت اختراع فكرة القانون الذي بلغت ذروتها في القرن الثامن عشر ، وبظهور اول دستور حديث مكتوب ، ومنذ ذلك التاريخ ؛ انعطفت الانسانية انعطافا هائلا نحو الاستقرار وخفض الصراع .
ولكي يحقق الدستور غاياته ، فان الامم المتحضرة ، تذهب الي صناعة دساتيرها في ظروف الهدوء والاستقرار ، ففي هذة الظروف ، يولد التوافق وتتحرر الإرادة ويبلغ الحماس الوطني ذروته ويولد الدستور باعتباره تعبيرا عن التوازنات الطبيعية في المجتمع وانعكاسا للرغبة في العيش المشترك ، اما حين يوضع الدستور في ظروف الصراعات المريرة والحروب الأهلية المدمرة ، فانه يتحول الي اداة مغالبة ووسيلة ارغام ؛ تفرضهاالجماعات الاقوي ؛ ليس للحفاظ علي توازنات المجتمع ؛ بل تكريس انتصار زائف ، وهي بذلك تؤجج الصراع ، ويتحول الدستور المفروض ، الي ظاهرة ظلم وليس أداة للتوافق .
ولا يوجد في تاريخ الدول والدساتير ، مثال واحد ؛ لدستور استطاع ان يعيش ؛ اذا تَخَلَّق في ظروف التوتر ، وعلي العكس فأن الدساتير الراسخة ، هي التي صنعت في ظروف الهدوء والزهو الوطني بعد استقلال مجيد او اتحاد أمة مقهورة، فقد انتظرت الولايات المتحدة ، عقد كامل ، بعد اعلان استقلالها لتكتب دستورها ؛ وعمره اليوم يزيد عن قرنين ، اما فرنسا ، وهي " مختبر الدساتير " فقد سقطت كل دساتيرها في وقت سريع ، بسبب وضعها في ظروف الصراع ، ولم يعش منها سوي دستور الجمهورية الخامسة ،الذي صنعته قيادة عظيمة بعد انحسار الأزمة .
إن وضع دستور ليبيا في هذة الظروف المليئة بالتوترات والصراعات العنيفة ، هو ؛ في ذاته ؛خطأ فادح ، نجم عن سذاجة سياسية ، تصورت أن الدساتير ؛ مفاتيح ألية لبناء المجتمع الديمقراطي ؛ دون اهتمام بأول شروط الديمقراطية ؛ وهو شيوع ثقافتها ووفره مناخها ، وحين يوضع الدستور ؛ في هذة الظروف ، فأنه سيكون تكريسا للمغالبة وإخلالا جسيما بالتوازنات الطبيعية للمجتمع ، مما يؤجج الصراع ويفتح أبواب جديدة للعنف .
ما من شك ، ان الدستور حاجة أساسية من حاجات الدولة المعاصرة ، عند نهاية الصراع وعودة الحياة الي مجراها الطبيعي ، لكن فترة الاضطراب ، تتطلب لمعالجتها ، افكارا ابداعية مبتكرة ، وهي ماكان يعوز الذين قادوا البلاد نحو هزاتها.
ثانيا... تنبع أهمية الدساتير من كونها الهرم للبنيان المؤسساتي والقانوني للدولة ومصدر طمأنينة المواطنين ، وهي قبل ذلك انعكاس امين لقيم الدولة المنبعثة من حضارتها وتاريخها وتراثها ، فالدستور لم يعد منبعا للقوانين ومقياسا لسلامتها وليس نصوصا لفض النزاعات او أداة لتنظيم صراعات السلطة او تعبيرات جوفاء عن الأحلام الواهية ، بل هو تعبير عن " رؤية أمة " دفعت البعض بوصفه " طريقة الحياة " لأمة ما ، وهو بهذا المعني مشروع حضاري متكامل ، يضع الأساس لحياة أجيال كثيرة قادمة ، وإذا حدث أن وضع الدستور علي أسس واهية او أفكار ظرفية معطوبة ، فأن الدولة برمتها تغدو عرضة للخطر .
تنطوي الدساتير ، علي معاني كثيرة وأبعاد حضارية وثقافية وتربوية متنوعة ، فهو مفخرة للأمة وأداة لتربية أجيالها ، وهو ما جعله في موقع قريب من " القداسة " تحرص الأمم علي دقة صياغته وتحشد من أجل ذلك ؛ أفضل عقولها ، لكتابته بأفضل الصيغ ، دقة في الأحكام وجمال في اللغة ، تجعله أشبه بتراتيل الأديان و أشعار الفخر ، وفي اعظم الدول رسوخًا في مدارس الفكر والفلسفة والقانون ، لا يتم التحرج من الاستعانة بافضل الخبراء ، لكتابة الدستور بافضل الصيغ وأشدها بلاغة واحكاما .
أغلب الظن ، ان المعاني قد فاتت علي الذين وضعتهم الاقدار في طريق الدستور ، وقد جري الخلط ، وسط الفوضي العارمة ، بين ضرورات الديمقراطية وكتابة الدساتير ، واغلب الظن أيضا ؛ ان الديمقراطية ؛ عند أدني مراتبها ، وقد تغلبت لتفرض سلطانها علي كتابة الدستور ، فهناك من تصور ان الجمعيات المنتخبة ، كيفما اتفق ، هي الأسلوب الأمثل لصناعة الدساتير !!
ثالثا...نظرا لمكانة الدستور وأهميته في الهرم القانوني للدولة باعتباره وعاء للمبادئ الرئيسية لنظام الدولة القانوني ، هي محدودية " مشتملاته " فهو لا يعالج غير القضايا الكبير التي لا تخضع للتغير المستمر والتبدل الدائم ، اما غير ذلك من شئون الحياة ، فهي حقول واسعة للقوانين واللوائح والتدابير ، ولعل أسوأ سقطات المشرع الدستوري ، حين ينغمس في فضاء غيره ، وهناك اليوم ما يعرف ب " العقيدة الدستورية " وأول لوازمها التفريق بين الشأن الدستوري وغيره .
أن موضوعات الدستور واهتماماته ، لا تزيد في العادة ، عن خمسة أو ستة موضوعات ، تتعلق بتنظيم سلطات الدولة ونظام الحكم ،الحريات الاساسية وحقوق الانسان ، هوية الدولة وثوابتها الرئيسية ، توجهاتها الكبري في المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية ، نظام مراجعة الدستور وخصوصيات الدولة ان وجدت .
ان هذة العقيدة ، هي التي جعلت الدساتير ، عملا موجزاً قصيرا ، فقد كتب الدستور الامريكي في سبع مواد ، كانت من بينها مادة واحدة ، تعالج وظيفة رئيس الدولة ، بكل ما لديه من جبروت ، اما دستور فرنسا فهو " 89 " مادة ، وذلك هو سبب الحياة .
ان ما بين يدينا من مشروع ، اخل إخلالا جسيما ، بأصول صناعة الدساتير ، حين انحدر لفضاء اللوائح والتدابير ، ولا اعرف اذا كان مشرعنا الدستوري ، علي معرفة بان الدساتير ، يتبعها فور صدورها سلسلة من القوانين " الاساسية " لاستكمال بنية الدستور ، ولأنه علي أغلب الظن لا يعرف ، فقد حشر معظم هذة القوانين في صلب الدستور ، وهو ما سيؤدي الي ضياع الدستور في متاهات غيره .
ان ذلك هو ما جعل المشروع خلطة غريبة ، أخشي ان تكون خلطة سامة ، فقد امتلأ المشروع بالتناقضات الكثيرة ، الناجمة - علي الأرجح - عن الرغبة في ارضاء النزعات المتعارضة والمخاوف المتبادلة ، فجاء الدستور اقرب لرسالة اطمئنان فرضتها الهواجس ، منه الي ميثاق جماعي لبناء وطن.
رابعا... لعل " أم الكوارث " عند صياغة الدساتير ، هي الصياغة اللغوية البائسة ، فمن طبيعة الدساتير كتابتها بلغة بليغة وعبارات محكمة ، حتي انه أصبح شائعا في أوساط رجال القانون ، ما يعرف ب " لغة الدساتير " والأدب الدستوري ، للدلالة علي قوة النصوص ومهارة الصياغة .
ان صياغة الدساتير ، ابعد بكثير من نظم الكلمات والاحكام ،التي يتعهدها أي رجل قانون ، مهما كان علمه ودرجة تفقهه ، فالصياغة الدستورية ؛ لا يكتفي بانطواء النص علي المضمون القانوني ، بل يجب ان تصب النصوص في كلمات وجمل ، تنطوي علي الدلالة والبلاغة والإيقاع ، ففي نصوص الدساتير تناغم شبيه بالطرب الموسيقي ،وقد شاع في أوساط رجال القانون ، أن الدكتور " عبدالرزاق السنهوري " وهو من اعظم فقهاء القانون ، في القرن العشرين ، وأكثر العرب شهرة في صياغة القانون ، شاع انه كان لا يقبل النصوص التي لا تنطوي علي " رنين " حتي اذا وجدها ؛ كافية الدلالة ، فالنص الدستوري ؛ يجب أن ينطوي علي " رنين خاص " وحالة جمالية ، تستطيع ان تلاحظها ، في كل نص تعهدته أيدي الدكتور السنهوري .
ليس فيما بين أيدينا من مشروع ، حالة رنين واحدة ، فاللغة ركيكة مفككة ، لا توحي بوجود قدرة علي سماع رنين النصوص ، حتي وان كانت قادرة علي صياغة الأحكام ، واغلب الظن ان ضعف الصياغة ، ناجمة عن عدم فهم ابعاد قيم الدستور الحضارية والثقافية والتربوية ، ففي الدستور طابع جمالي، وحين يفتقد هذا الطابع ؛ فأنه يتحول الي نص لا ينبض بالحياة ؛لا يثير الحماس او يشعل الروح الوطنية أو يجلب الافتخار .
خامسا ....أن الدستور ، بصرف النظر عن جمال الصياغة ، فهو منجم للأفكار الفلسفية والقانونية العميقة ، عندما يشيد علي النظريات والأفكار الانسانية ، وينطوي علي طابع الإبداع في بناء المؤسسات علي وجه يلائم ثقافة الشعب وتجاربه وتراثه ، اما حين يكتفي باستيراد الأفكار والمؤسسات ، فانه يتحول الي سلعة معطوبة تعفنها رطوبة البحار ،وليس في ظني ، في هذا المشروع ، صورة من صور الإبداع ، فهو خلطة " نظم " لا تقوم علي عبقرية وطنية صافية أو نظرية سياسية متماسكة أو فكرة دستورية واضحة ،وتلك هي الجزء غير المنظور من الدستور الكلي ومصدر الثراء للفقه الدستوري التي تساعد علي التفسير والتأويل والتطوير .
وبعد... فليس من الحكمة ، محاولة قطف الثمار قبل نضجها ، اذ ستتكشف مرارتها ، بعد فوات الإوان
الشابي- مشرف عام
-
عدد المساهمات : 5777
نقاط : 15814
تاريخ التسجيل : 04/06/2014
مواضيع مماثلة
» ملاحظات مهمة الي الشعب الليبي-دكتور حمزة التهامي 18-7-2013
» طبرق | مسودة قانون الاستفتاء على مشروع الدستور المزمع التصويت عليها من قبل مجلس النواب بجلسة 30-7-2018
» الدستور الليبي لن يتضمن العلم والنشيد الحاليين
» انتخاب تأسيسية الدستور الليبي الشهر القادم وسط مقاطعة من الأمازيغ
» بريتيش بيتروليوم تنسحب من مشروع غدامس الليبي النفطي لانعدام الأمن
» طبرق | مسودة قانون الاستفتاء على مشروع الدستور المزمع التصويت عليها من قبل مجلس النواب بجلسة 30-7-2018
» الدستور الليبي لن يتضمن العلم والنشيد الحاليين
» انتخاب تأسيسية الدستور الليبي الشهر القادم وسط مقاطعة من الأمازيغ
» بريتيش بيتروليوم تنسحب من مشروع غدامس الليبي النفطي لانعدام الأمن
منتديات الدفاع عن الجماهيرية الليبية و سوريا العروبة :: المنتديات السياسية :: منتدى الأخبار العاجلة الليبية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
أمس في 10:23 pm من طرف larbi
» يوم كئيب في تل أبيب» حزب الله يقصف إسرائيل 5 مرات متوالية و4 ملايين في الملاجئ.
أمس في 10:14 pm من طرف larbi
» عصبة العز وثلة الهوان
أمس في 6:40 pm من طرف عبد الله ضراب
» الاهبل محمد بن سلمان يحاصر الكعبة الشريفة بالدسكوهات و الملاهي الليلية
السبت نوفمبر 23, 2024 9:34 pm من طرف larbi
» نكبة بلد المشاعر
السبت نوفمبر 23, 2024 4:41 pm من طرف عبد الله ضراب
» صلاح الدين الايوبي
الخميس نوفمبر 21, 2024 10:36 pm من طرف larbi
» جنائية الدولية تصدر أمري اعتقال ضد نتنياهو وغالانت
الخميس نوفمبر 21, 2024 4:06 pm من طرف larbi
» الى فرسان اليمن
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:52 pm من طرف larbi
» كلمة مندوب الجزائر في مجلس الأمن بعد الفيتو الأميركي ضد قرار وقف الحرب على غزة
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:34 pm من طرف larbi
» كلمة الأمين العام لحزب الله اللبناني نعيم قاسم
الأربعاء نوفمبر 20, 2024 9:32 pm من طرف larbi