لمن لم يقرأ التاريخ.. الطريق من سايكس بيكو القديمة إلى المخطط الجديد

في بداية هذه المقالة كان لدي تساؤل بسيط في الظاهر معقد في باطنه وجوهره ، لماذا نحن دائماً ولماذا أرضنا ومنطقتنا وديننا هو ما يهاجم عبر كل تلك السنين ؟ هل ندفع ضريبة الفتوحات الاسلامية والعربية التي وصلت إلى أقاصي الصين وجبال البرنييه ؟ هل ما زلنا ندفع ضريبة بقائنا في الاندلس وبناء حضارتها لمدة ثمانمئة سنة بعد أن كانت تتبع للقوطيين وجهلهم ؟ أم هناك سر غريب غير ظاهر وهو الاسباب الدينية والعرقية هي التي تؤدي إلى كل ذلك .
عندما أجلس مفكرا ومتأملا ً لما يدور حولي وخصوصا بعد سقوط هيبة الخلافة العباسية بعد مقتل الخليفة المتوكل ، ورغم كل الممالك الصغيرة التي ظهرت وحاولت الحفاظ على الهيبة الاسلامية في المنطقة إلى أننا كنا ننجح لبضع سنوات ثم نضعف ونصبح دمية بيد الدول والامبراطوريات المحيطة بنا . جلست وتأملت كثيرا فكرة أننا عانينا سابقا من شيء شبيه باتفاقيات التقسيم التي وضعنا بها ضمن القرن العشرين ، على سبيل المثال الاتفاق الضمني بين الفرس والروم على تقاسم اماكن السلطة والنفوذ وتواجد حلفاء كل منهم " الغساسسنة والمناذرة " انتقلنا بها وبعد دورة الايام ووصولنا الى سدة الحكم وسيادة العالم . عدنا إلى شرذمتنا من جديد وأصبحت ممالك لنا تخضع لسلطة الروم وأخرى تتبع لسلطة المغول وذلك بعد انتهاء السيادة العباسية ثم تشرذمنا الى أن حكمنا من المماليك انتهاء بخضوعنا لمدة اربعة قرون لسيادة العثمانيين ، ووصولنا إلى ما نحن به الأن . فوجدت أننا نمتلك مشكلة كبيرة جداً وهي أننا قوم نمتلك من الغباء ما يوازي امتلاكنا لمقدرات القوة على حد السواء ، فنحن نمتلك أهم مكان عبر التاريخ وهو مكان يربط طرق الأرض ببعضها البعض ونشرف على ممرات مائية هامة وهذا كله عبر التاريخ منذ ايام طريق الحرير ومحطاته وصولا إلى اكتشاف رأس الرجاء الصالح مما أنهك موقعنا الذي ما لبثنا ان استعدناه بفتح قناة السويس في 16 نوفمبر 1869 . ومن ذاك التاريخ تورطنا بغزوات ومصائب اضافية تراكمت على واقعنا الأليم المنهك أصلاً . فكل الغزوات التي كانت توجه لنا وتأخذ طابع العداء للدين باتت تحمل جانبا أخر الان وهو جانب الغزو الاقتصادي للسيطرة على مناطق نفوذ وطرق ربط للعالم كله .
رافق كل ذلك مشكلة المستشرقين الذين كانوا يأتون لنا بحجة ولههم وعشقهم للحضارة والشرق وكانوا يمعنون في سلب حضارتنا وتاريخنا ويزيدون جهالتنا أضعافا مضاعفة . وسرنا هكذا حتى وصلنا إلى ربيعنا العربي الأول متمثلاً بالثورة العربية الكبرى والتي انتهت باتفاقية سايكس بيكو . التي كانت بداية لخطط ومخططات أودت بطموحاتنا الوحدوية والعروبية التي بنيت عليها الثورة المجيدة . تلك الثورة التي كان في ظاهرها تحرر العرب من طغيان العثمانين لكل تلك السنوات وتحقيق حريتهم واستقلالهم وفي باطنها لم تكن سوا سباق بريطاني فرنسي لتحقيق كل طرف منهما مكاسب أكبر على حسابنا و حساب الاخر .
في مطلع تلك الثورة والتمهيد للتحرر والنضال العربي نشأت حركات وجمعيات عربية سرية حاولت نشر الفكر التحرري والقومي على قدر المستطاع فمنهم من اعتقل ومنهم من اعدم أو فر هاربا بعيدا عن بلاد الشام التي كانت هي المركز الأساسي لتلك المنظمات . كان الشبان العرب المناضلون في تلك الجمعيات يعملون ما في وسعهم حتى تنال البلاد العربية حريتها ولم يدر في خلدهم أبدا أن من يمدون يد المساعدة لهم هم نفسهم من سيوقعون بهم ويوصلونهم إلى حبال المشانق في ساحات دمشق وبيروت بعد محاكمات عرفية في عاليه على يد جمال باشا السفاح قائد الجيش الرابع .
فالحلفاء الفرنسيين الذي من المفترض أنهم كانوا يسعون لنصرة العرب هم نفسهم من سحب قنصليتهم من بيروت ووضعوا كل الوثائق الهامة التي بحوزتهم حول الجمعيات العربية واسماء الناشطين والمؤسسين لها في حماية السفارة الامريكية ، ثم نشروا خبرا أوصلوه للسطات العثمانية عبر فيليب زلزل وهو شخص من وجهاء المسيحين في بكفيا في لبنان وكان القنصل الفرنسي قد احتضنه وجعله كبير مترجمي القنصلية الفرنسية ، ثم نفي مع بقية موظفي القنصلية إلى دمشق عند اندلاع الحرب بين الدولة العثمانية وفرنسا ، و كان مسيو بيكو قد وعده بالعودة إلى دمشق بعد اسبوعين من ذلك وبعد تأخره قلق فيليب زلزل من أن تنقله السلطات الى الاناضول كبقية المنقولين إلى هناك فالتجأ إلى القنصل الألماني في دمشق وعرض عليه أن يتوسط له لدى جمال باشا وإعلان ندمه على خدمة فرنسا وكل ذلك يكون مقابل خدمة يقدمها للسلطات العثمانية لا يستطيع أحد غيره أن يقدمها . وافق جمال باشا واعدا فيليب بإعادته إلى بلدته بكفيا في حال كان صادقا ، فقام فيليب زلزل بإخباره بمكان تخبئة القنصل الفرنسي للأوراق السرية التي تدين النشطاء العرب وهي تقع ضمن غرفة سرية في القنصلية الامريكية مموهة بشكل كامل حتى لا تظهر لاي شخص . وبعد كشف الشرطة العسكرية العثمانية وجدوا هذه الوثائق الخطيرة والتي تدين العديد من الوجهاء أمثال " ميشال التويني , يوسف الهاني , بترو طراد , رزق الله ارقش " وكان في أخر هذه الوثائق التالي :
" فأقصى ما يبتغيه مسيحيو سوريا هو أن تحتل فرنسا القطر السوري . ولهذا يعرض الموقعون أسماءهم من أعضاء اللجنة التنفيذية بالنيابة عن مسيحي بيروت بحسب مراتبهم المقترحات التالية . التي يعتقدون أنها الوحيدة الكفيلة بإصلاح الحالة السياسية الحاضرة بسوريا :
1- احتلال فرنسا لسوريا . 2- استقلال ولاية بيروت استقلالا تاما تحت الوصاية الفرنسية . 3- إدماج ولاية بيروت بلبنان الذي يكون تحت سيادة الفرنسية الفعلية . "
كانت هذه الوثيقة التي فضحها فيلبيب زلزل بإيعاز من القنصل الفرنسي رأس الخيط الذي من خلاله تم القاء القبض على اصحاب ومفكري معظم الجمعيات القومية العربية الذين لم يؤيدوا فكرة هذه الوثيقة وسوقهم إلى ديوان عاليه العرفي وبالتالي شنقهم في ساحات دمشق وبيروت . أما من موقعي الوثيقة فغالبيتهم هربوا باستثناء يوسف الهاني الذي قبض عليه .
التصرف الذكي الفرنسي هذا أفرغ المنطقة العربية من مفكريها ومناضليها وبالتالي كان الجو مهيئاً تماما لأي حركة سيطرة واحتلال منها أو من بريطانيا للمنطقة العربية . وخلق حالة من الاشكالات بين السكان المسلمين والمسيحين في المنطقة بعد نشر هكذا معلومات .
الشيء المضحك أكثر هو أن فرنسا وبريطانيا في الظاهر قدمتا الدعم للعرب للتخلص من السلطة العثمانية بحجة التحرر مقابل وعود مطلقة بالحرية والوحدة . وعلى الطرف الاخر وبعد هزيمة تركيا في الحرب ووصول مصطفى كمال أتاتورك وتوقيع معاهدة رودس عام 1918 مع الحلفاء تم منحها المنطقة الشمالية من سوريا الطبيعية بدءا من أضنة وديار بكر وأورفه وصولا إلى سفوح جبال طوروس . وأكملتها في العراق عندما سلمت أمير اقليم عربستان الغني بالنفط بمؤامرة دنيئة إلى السلطات الايرانية المتحالفة معها وأدى ذلك لخضوع الاقليم لسلطة ايران .وتمت العملية عبر ميناء الاحمر فخطف الشيخ خزعل الكعبي في 25 نيسان 1925 على يد قوات الشاه رضا بهلوي الذي اطاح بالدولة القاجرية في ايران . وبهكذا قامت فرنسا وبريطانيا بالتمهيد بشكل ممتاز لاتفاقية سايكس بيكو وتبطبيقها بشكل ممتاز وكل ذلك بعد القضاء على السلطة العثمانية بأيدي العرب وايقاع الفتنة المرعبة بين المسلمين والمسيحين وتفتيت المنطقة ومنحها للعديد من المناطق العربية للدول المجاورة عبر التقسيمات والاتفاقيات والوعود ومن ضمنها وعد بلفور عام 1917 . كل هذا كان تحت مخطط سايكس بيكو سازانوف الذي تم تحت رعاية القيصرية الروسية . فعمل الوزير فرانسوا جورج بيكو ومارك سايكس على وضع خطط التقسيم . وبعد وصول الشيوعيين الى السلطة عام 1917 فضحوا هذه المخططات وسربوها الى الدولة العثمانية التي احست بالخطر وحاولت التفاهم مع العرب . لكن دون جدوى فقد أعمتهم الوعود الأوربية بالحرية والاستقلال فاستمروا بهياجهم وثورتهم والدعم الاوربي السري حتى انهو الوجود العثماني لصالح الاوربي .
فاتممنا بجهلنا وهياجنا وتعطشنا للحرية والعدالة ما رسمه لنا المستعمر الاوربي ووضعه لنا فحققناه له بأقل الخسائر الممكنة وبتنا كيانات متشرذمة فاقدة للسلطة والهيبة وخاضعة للغرب بكل شيء حتى بأتفه الامور .
ورغم كل هذا وماذكر وتجاربنا المريرة بهذا الموضوع وضع لنا مخطط جديد وبكل صراحة مخطط سايكس بيكو القديم ينحني له ويرفع له القبعة لشدة ماهو داهية وشديد المكر ورغم هذا كله ما زلنا نضع رأسنا في الأرض ونهتف للحرية والعدالة الذي اغرانا به الغرب دون أدنى التفات الى ما جرى لنا قديما من تشابه في الاحداث .
واضع المخطط الجديد هو برنارد لويس وهو من سنتكلم عنه وعن مخططه في مقالتنا القادمة .
ولنا بقية .....
بقلمي : عاصم أبو شقرة / طائر الفينيق