ابتزاز ثورة مصر بالسيف ومعه الذهب

طلال سلمان

تكاد الإدارة الأميركية تنتقل بقضها وقضيضها إلى القاهرة لمحاولة استيعاب الثورة الثانية للميدان، تسبقها وترافقها وتلحق بها وفود أوروبية، معظمها سياسي الهوية وبعضها الأخطر مخابراتي، وثمة من سبقها أو رافقها «من خارج التصنيف» للتمويه.
الهدف: محاولة اكتشاف مركز القرار في هذا الحراك الشعبي الثوري غير المسبوق، والذي جدد ذاته وصحح مسار حركته مرتين، وفي الميدان، خلال ثلاثين شهراً. لا أكثر..
ولقد جاءت وفود (غربية) تلوّح بسيف الحصار والضغوط السياسية، كما جيء بوفود أخرى (عربية) تلوّح بالمليارات، وهي تعرف أن مصر بأوضاعها الراهنة في حاجة ماسة إليها. هي المعادلة ذاتها التي تكررت عبر التاريخ: إما الإخضاع بالذهب وإما بالسيف، وإما بكليهما معاً.
كل الذين جاءوا مسرعين، أو استقدموا على عجل، يعرفون أن الثورة تواجه حالة فريدة في بابها: إن ميدانها الذي اكتشف أن ثمة من سرق قراره فتحرك لاسترداد هذا القرار وإعادة تصحيح المسار. لقد ثار الشعب من أجل التغيير، بوصفه مصدر السلطة، ولم يكن هدف ثورته الأولى استبدال رجل برجل وتنظيم سياسي مستحدث ومرتجل ومعزز بقوة السلطة، بتنظيم سياسي عريق ولكنه عاش في عتمة المناورات والمؤامرات ودهاليز المخابرات الأجنبية فلم يعرف كيف يعيش في الضوء.. ثم إن سقوط السلطة بين يديه بمصادفة قدرية قد أنشاه فأسكره واعتبر نفسه الشعب بل الأمة بل العالم جميعاً، ونسي أنه لم يفز لأنه الأقوى أو الأفضل أو الأحق بل لأن «الآخر» كان ـ في التقدير ـ الأسوأ والقادر على اغتيال الثورة بتفريغها من مضمونها وتقزيمها بحيث تصير مجرد استبدال للتوأم الأول بالتوأم الثاني، وكلاهما وجهان للصورة ذاتها وابنان شرعيان للنظام ذاته.
لماذا تتقاطر هذه الوفود الغربية عالية المستوى والعربية ذات الأرصدة الذهبية الأسطورية إلى القاهرة عارضة وساطتها بين الصح والغلط بين الماء والنار؟!
لم يُعرف عن هؤلاء الوسطاء جميعاً الإيمان بالشعب والتسليم بحقه في الثورة وقدرته على إسقاط الطغيان ومن ثم اختيار نظامه وقيادته على قاعدة خريطة طريق إلى المستقبل.
ولا عُرفت عنهم نصرة القضايا العادلة مثل فلسطين، والأنظمة التي ترفض التبعية وتجتهد لبناء الدولة بالتحرر السياسي والعدالة الاجتماعية، مستندة إلى دعم الشعب واستعداده للتضحية من أجل الغد الأفضل.
هل جاءت هذه الوفود لشراء الماضي أم الحاضر؟!
ليس هذا هو السؤال، بل هو أنها جاءت لشراء المستقبل.
إنها تستخدم الإخوان و«شرعية» عهدهم، برئيسه والحكومة، للضغط على الثورة بحيث «تعطيها» ما عجز الإخوان عن «تسليمه» برغم تعهدهم بإنجاز المهمة.
إنها تريد ابتزاز الثورة و«شراء» زخمها وبرنامجها للتغيير الذي لن ينحصر تأثيره في مصر.
إن «الوسطاء» الدوليين منهم والعرب أسوأ من الإخوان: إنهم يطلبون ما عجز الإخوان عن تسليمه. إنهم يبتزون العهد الجديد بالنقيضين المتكاملين: الإغواء بالاعتراف الدولي وبالذهب العربي. كأنما إرادة الشعب تباع في سوق النخاسة، وألا تكون قطيعة تمهد لفرض حظر على التعامل مع النظام الجديد.
ليست ثورة تلك التي يبارك الأميركيون نجاحها، ويهلل أهل النفط العربي لانتصارها بانتصارهم عليها بعد أن أنجزت مهمتها بإلحاق الهزيمة بخصومهم الذين هم «أعداؤها» بالعقيدة والمنهج والهدف.
وكل حديث عن الوساطة الدولية ـ العربية هو حسم من رصيد الثورة، وامتهان لدماء الثوار الذين لم يستشهدوا من أجل أن يستبدلوا الأخ طويل اللحية بالخواجة طويل السيف أو بصاحب السمو طويل الباع بذهبه و«شرهاته».
والثورة تحمي نفسها بميدانها، والجيش يكتسب شرعيته بقدر ما يكون من الميدان وفيه، فإن خرج منه أو عليه فقد دوره ورصيده التاريخي الذي يستمده الآن من الميدان وليس من قصر الاتحادية أو قصر القبة أو أي قصر آخر في الداخل أو في الخارج.