القدر العمودي والقدر الافقي

نبيه البرجي

لقد ضجرنا من اميركا. ايضا اميركا ضجرت منا…
هل حقاً ان الاميركيين هم الذين يتقهقرون في الشرق الاوسط ام نحن الذين نتقهقر؟ لا شعوب، ولا انظمة، ولا دول ولا حتى قبائل. يحتار روبرت كاغان في وصفنا. المفكر الاميركي الذي ينظر من اعلى الى الكرة الارضية والذي هزىء ذات يوم من الاوروبيين وقال «نحن ابناء المريخ وهم ابناء الزهرة»، يستغرب كيف ان عدوى الهنود الحمر انتهت الينا. لم يقل ان عدوانا، نحن الذين حطمنا كل شيء فينا حتى عظامنا، هي التي انتقلت الى الهنود الحمر…
دائماً اميركا. ذات يوم فكّر الرئيس فرنسوا ميتران في ان يدير ظهره للولايات المتحدة، فقال له مستشاره جاك آتالي «كما لو انك تريد ان تدير ظهرك للسيد المسيح». دعونا نستشهد هذه المرة ايضا بعبارة امين معلوف «ثمة نوعان من القدر، القدر العمودي والقدر الافقي». هل كان يعني بالعمودي الله وبالافقي..اميركا؟
ها هي مصر تيمّم شطر روسيا. تركيا التي حاولت ان تكون السلطان، فإذا برجب طيب اردوغان يجعل منها قهرمانة السلطان،تيمّم شطر الصين. يا للغرابة، اجل يا للغرابة، حين نجد ايران تغرد اميركياً. المسألة ليست مسألة ضجر، الاميركيون تعبوا من الايرانيين والايرانيون تعبوا من الاميركيين. اخيراً، لا بد من نهاية لذلك الصراع الطويل. لاحظوا كيف امتقعت وجوه، وارواح، بعض العرب كما لو انه يفترض بالمنطقة ان تلعب دائما على حافة الهاوية. ألا يلعب البعض على حافة جهنم؟..
لن نقول ان اميركا تنسحب، تدريجاً، من الشرق الاوسط الذي اعادت تركيبه، ومنذ ايام دوايت ايزنهاور، ومبدأ ايزنهاور واكياس الطحين التي كانت توزعها «النقطة الرابعة»، ليكون مزرعة للدمى. اجل مزرعة للدمى، والا اين الدول العربية بحساسيتها الجيوستراتيجية اللامتناهية، وبثرواتها الاسطورية، وبالملايين من خريجي الجامعات؟ اجل، اين هذه الدول من اليابان ومن كوريا الجنوبية ومن ماليزيا وحتى من سنغافورة التي طالما كانت عبارة عن مستودعات للبضائع؟ لا شيء على الاطلاق.
هكذا نحن. اذا تأملتم في قضية فلسطين، كما لو انكم تتأملون في المرآة. على مدى ستة عقود او اكثر، والقضية تتقهقر ونحن نتقهقر. لا بل ان بعضنا يجثو امام بنيامين نتنياهو، ويتواطأ مع بنيامين نتنياهو، كما لو انه يجثو امام النبي موسى او يتواطأ مع النبي موسى..
اميركا لن تنسحب، بل ان تأثيرها في المنطقة يتراجع. هذه طبيعة الاشياء. قلنا الاميركيون يبعثون على الضجر و نحن ايضا نبعث على الضجر. ولكن من يملأ ذلك الفراغ الذي سينتج عن التراجع الاميركي، ولو كان قيد انملة؟ السؤال ليس من قبيل الفانتازيا اللغوية او السياسية، بل اننا نطرحه من قبيل الضرورة الاستراتيجية. العرب يملأون الفراغ بالفراغ. الروس ومن ايام بطرس الاكبر يحلمون بأن يضعوا اقدامهم ( او احذيتهم الثقيلة) في المياه الدافئة، لكنهم يعيدون بناء الامبراطورية، الامبراطورية المقدسة، وهم منافسون في النفط والغاز…
الاميركيون يقولون، وبينهم روبرت كاغان، ان التنين هو الذي يتدحرج نحو الشرق الاوسط. ثمة قرابة حضارية. كيف؟ صمويل هانتنغتون هو الذي اكتشف ذلك حين تحدث عن الصدام الحتمي بين الحضارة اليهو-مسيحية والحضارة الكونفو-اسلامية. من يقرأ افكار كونفوشيوس كما لو انه يقرأ افكار ابي ذر الغفاري…
لكن الغريب، تاريخيا، ان اباطرة الصين لم يتوجهوا الى المنطقة، لا بل ان العرب وصلوا الى هناك، وفي حقبة ما كانوا هم من يختارون الامبراطور. اي لعنة تلك التي حملتنا الى القاع ؟
العرب الضائعون بسبب التراجع الاميركي ( ولو كان قيد انملة) قد يكونون اقل ضياعاً من الاسرائيليين. يوري افنيري يسأل ماذا كانت اسرائيل ستغدو ذات يوم زوبعة في فنجان، ليشير الى ان «الانبياء»الذين تعاقبوا على حكم اسرائيل كانوا يعتبرون ان هناك نوعاً من التماهي اللاهوتي والاستراتيجي بين اميركا و يهوه. لم يأخذوا بالاعتبار ان التاريخ، وفي نهاية المطاف، يتقيأ الامبراطوريات…
لكن اميركا تبقى امبراطورية الامبراطوريات. كل ادمغة العالم هناك. في احد الاعلانات في المكسيك «تذوق الكوكا كولا كما لو انك تتذوق شفتي مادونا» التي اكتشفنا اخيرا ان عائداتها الجسدية ( كنجمة بوب) فاقت عائدات اي بئر نفطي. انها اميركا التي تنتج السوبر خيال. الخيال متروك للبشر الآخرين. ماذا يقول رعايا الف ليلة و ليلة؟
ولكن ألا يتحدث كبار الباحثين الاميركيين عن «التيه الاميركي». التيه الداخلي. المجمع الصناعي- العسكري الذي حذر منه دوايت ايزنهاور في خطبة الوداع ينقض بضراوة على باراك اوباما الآن. انهم يتحدثون عن الخلل المريع في الموقع الالكتروني لقانون الرعاية الصحية والذي يعتبر الرئيس الاسود انه معجزته التاريخية. الخلل ليس تقنياً بل يتعلق ببنية التطبيق. دائماً فتش عن اللوبي اليهودي الغاضب جدا من مقاربة اوباما للملف الايراني…
والمثير ان هذا اللوبي هو الذي يتبنى الاتجاه القائل بالاعتماد على الاسلاميين، لا سيما «الاخوان المسلمين» في الشرق الاوسط، فها ان الحملة تتصاعد على جون كيري لانه صرح بأن «الاخوان» استولوا على الثورة ( او سرقوها) في مصر. سوزان رايس تقود الحملة من داخل البيت الابيض، وثمة مستشارة «عائلية» للرئيس يحكى عن ميولها نحو اسرائيل. اذاً، من ينصح الايرانيين بأن يستفيدوا من كل لحظة من عهد اوباما؟ قد يكون من بعده الطوفان..
نحن- الدمى- نصفق للطوفان ولو كان الرابح الاكبر بنيامين نتنياهو. من قال ان الطوفان لا يجرف الجميع، ولكن الى اين؟