رسائل دمشق من “جنيف 2″

زياد حيدر
مُنح الوفد السوري، الذي مثل كبار مسؤولي سوريا السياسيين إلى جنيف، تفويضا كبيرا مع الإعلام، ممررا رسائل سياسية متعددة الأغراض، كان واضحا أنه جرى الإعداد لها بثقة ودراسة، للاستفادة إلى أقصى درجة من التواجد الإعلامي الكثيف أمام مقري الوفد في مونترو وجنيف.
وانقسم الوفد، ابتداء من اليوم الثاني للمؤتمر، إلى جناحين، الأول مثله المندوب السوري الدائم لدى الأمم المتحدة بشار الجعفري، متوليا تمرير جلسات جنيف عن الدولة السورية مع المبعوث الدولي الأخضر الابراهيمي، والثاني تمثل في بقية الوفد الذين تولوا “المحاججة الإعلامية”، وتسجيل النقطة تلو الأخرى.
ووفى الجعفري بتعهده بعدم الحديث للإعلام كونه مسؤول التفاوض في قاعة الفندق، بينما قام أعضاء الوفد الآخرون بهذه المهمة. وخرج كل من وزير الإعلام عمران الزعبي والمستشارة الرئاسية بثينة شعبان ونائب وزير الخارجية فيصل المقداد ليقولوا ما لم يستطع الجعفري قوله، مستخدمين أشد الألفاظ وأقسى التوصيفات، بحق وفد المعارضة المتمثل بـ”الائتلاف”، في رسائل مخطط لها قبل ايام من المشاركة في المحادثات.
واعتبرت دمشق المحفل الدولي فرصة لم تتوفر منذ ثلاثة أعوام للحكومة، لمخاطبة جمهوري الداخل والخارج والمجتمع الدولي، عبر ما يقارب 700 صحافي عربي وأجنبي. ورغم أن أية تعليمات لم تمنح للوفود الإعلامية الرسمية والخاصة السورية المرافقة إلا ان فرق الإعلام، سواء السوري أو من محطات حليفة لسوريا، نسقت عملها.
ومن أولى الرسائل التي رغب الوفد الحكومي في تمريرها هو أنه يحمل “رسالة عادلة، وأنه يأتي ليفاوض من موقع قوة، لا من موقع ضعف”. ونجح الوفد أكثر من مرة في مواجهة التوصيف القائم إعلاميا في كل مراحل الحرب باعتبارها “بين نظام ومعارضة”، مشددا في مؤتمرات صحافية على أنه “وفد الجمهورية السورية لا وفد النظام”، حتى أن الجعفري كان يرفض الإجابة عن أسئلة لا تقدم توصيف الرئيس بشار الأسد بصفته “رئيس الجمهورية العربية السورية”.
الرسالة الثانية، المزدوجة الجمهور أيضا، تمثلت بـ”استعداد الحكومة السورية لبذل كل مجهود ممكن لتحقيق تسوية سياسية”، وهي رسالة حققت غايتها بإصرار الوفد على عدم المغادرة أيا كانت الظرف، إلى درجة إخبار وزير الخارجية وليد المعلم المبعوث الدولي الإبراهيمي أنه لن يغادر إلا بعده، نافيا عن نفسه “محاولة عرقلة مفاوضات” يتمنى السوريون في الداخل أن تحقق غرضا سلميا، وإن من دون تفاؤل بإمكان ذلك.
وثمة رسالة أخرى تمثلت في محاولة اختزال لمئات الرسائل التي أرسلتها وزارة الخارجية السورية إلى مجلس الأمن والأمم المتحدة حول “مكافحة الإرهاب”، وتتهم في مجملها السعودية وقطر وتركيا “برعاية الإرهاب في سوريا وتمويله”.
وسعى الوفد السوري لاستثمار “عطش وفضول وسائل الإعلام العربية والأجنبية للحديث إلى المسؤولين” للإكثار من هذه الرسالة، وتحميل “الوهابية، وقلبها النابض في المملكة الصهيونية” على حد وصف وزير الدفاع السوري العماد فهد جاسم الفريج أمس الأول مسؤولية “شر العالم”، في سياسة باتت ثابتة لدى دمشق منذ منتصف العام الماضي، ومن المرجح أن تستمر، حتى تبدأ الرياض بإعادة حساباتها على الأرض السورية.
أما الرسالة الثالثة الموجهة للداخل، فكانت لا تخلو من حساسية، وتتمثل في محاولة إرضاء حالة مستعصية من الأهواء والأمزجة والمشاعر الملتهبة لدى المواطنين السوريين. فالوفد السوري ذهب إلى جنيف بناء على رغبة روسية، واستجابة لنداء دولي لا جدال فيه، إلا انه اضطر على مدى أسبوع لمحاورة من نعتهم بـ”العمالة والإرهاب” و”انعدام الحيلة والتمثيل”. كما سعى الوفد بنشاط، وعن تخطيط مسبق، لتحميل خصمه “مسؤولية الفشل عبر عرض قضايا تحقق إجماعا مفترضا”، منها “بيان الدولة المدنية الديموقراطية” والبيان “ضد الإرهاب”، وصولا إلى الوقوف “القسري” دقيقة صمت على “دماء الشهداء في سوريا”. وهي عبارة، للطرفين تفسيران لها أيضا.
وسعى الوفد، في هذا الإطار، لرفع شدة تلك النعوت مع نهاية الاسبوع، تجسيدا لهذا التوجه، آخذا بالاعتبار المعركة التي يخوضها الجيش على جبهات مختلفة في أنحاء البلاد، ودماء جنوده التي لم تجف.
عدا ذلك، عرفت دمشق منذ البداية، أنها ستفاوض دوما على مسارين. مسار تتوقع له التفكك بين جلسة محادثات وأخرى، وهو مسار المجموعة المعارضة، باعتبار “المعارضين اشخاصا لهم غاياتهم الشخصية وأمزجتهم وحساباتهم الضيقة”، والثاني يتمثل في “التحالفات التي تقف خلفهم”، وهي تحالفات ركز الوفد السوري في انتقادها على السفير الأميركي لدى سوريا روبرت فورد باعتباره صاحب التأثير الأكبر.
ورغم أن دمشق نجحت على المستوى الأول، إلا ان أي اختراق فعلي لم يظهر على المستوى الثاني.
وفي منتصف الأسبوع الماضي، وردا على خبر ورد بشكل “عاجل” على شاشة إحدى قنوات التلفزة، عن لقاء جمع المعلم بمسؤولين غربيين صباح الأحد، نفى مسؤول سوري رفيع المستوى شارك في محادثات جنيف، لـ”السفير” هذه المعلومة، مشيرا إلى أن انطباع دمشق أن “الأجواء الدولية والإقليمية ما زالت خارج هذا المزاج”، وذلك بسبب الراعي الأميركي، الذي يسعى لزيادة وتيرة الضغط على دمشق.
وانسجم مع هذا التحليل، تقييم أميركي نشر منذ يومين يتوقع “عملية مديدة”، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن ظروف هذه التسوية والوقت الذي يمر “في غير مصلحة النظام”، وهو تحليل يعتقد الروس من طرفهم أنه يعاكس الواقع تماما، خصوصا أن زيارة الوفد السوري المفاوض إلى موسكو قبل أيام من انطلاق مفاوضات جنيف كان من أبرز توافقاتها الحرص على “تمرير الوقت والخوض في التفاصيل”. أما كم من الوقت يمكن لهذه العملية أن تستغرق، فينقل مرافق للوفد في جنيف لـ”السفير” عن المسؤولين السوريين توقعاتهم باستمرارها عامين، إن لم تتغير الظروف المحيطة بهذه العملية، من تحالفات وتوازن دولي، إضافة إلى الظروف الميدانية على الأرض السورية.
وهي فكرة عبرت عنها تصريحات شعبان قبل أيام، بإشارتها إلى أن بيان “جنيف 1″ ليس “قرآنا ولا إنجيلا”، منوهة بالواقع المهم بأن “الأرض تغيرت”، في إشارة إلى موازين القوى على الأرض “فكل التسويات في العالم بدأت من حيث توصل إليه الواقع والأرض”. وهي على ما يبدو ستكون رسالة دمشق المعلنة إلى محادثات العاشر من شباط الحالي، وما سيتلوها من لقاءات.