«العقبة بين سورية والمملكة العربية» في رؤيا أنطوان سعادة

جورج كعدي

الإجماع قديم على رؤيا أنطون سعاده الفذّة في قضايا شتّى ورغم ذلك لا ينفك العائد باستمرار إلى فكره ورؤياه من خلال أجزاء الأعمال الكاملة يُصاب بالدهشة حيال راهنية هذه الرؤيا التي استبقت قبل ثلاثة أرباع قرن ما يحصل اليوم في أدقّ الوقائع والتفاصيل ما يؤكّد مرّة إضافية حقيقة وصلابة ما أرساه سعاده فكراً وعقيدةً وتصوّراً للأمة السورية تاريخاً وواقعاً ومستقبلاً مجيباً سلفاً واستباقاً عن مختلف الإشكاليات والتحدّيات ذات الطابع الدائم والتاريخي طارحاً التصوّرات والحلول منبّهاً إلى الأخطار المهدّدة للأمّة مثل نشوء كيان «إسرائيل» كان سعاده أحد أشدّ المنبّهين إلى خطره قبل أكثر من عقد على إنشائه والخطر التركيّ التاريخيّ إنّما كذلك الخطر السعوديّ الوهابيّ الذي يفوق تهديده للأمّة في الساعة الراهنة الخطرين «الإسرائيليّ» والتركيّ معاً ويا للأسف.
ليُعد القارئ معي قراءة هذا النصّ الرؤيويّ المدهش حقاً لعبقريّ النهضة أنطون سعاده والمنشور في «النهضة» العدد 2 في 15 10 1937 أنطون سعاده الأعمال الكاملة الجزء الثاني تحت عنوان «العقبة بين سورية والمملكة العربية» ولنقرأ راهننا في ضوء كلامه ولنعِ حقيقة ما يجري في الشام والأمّة السورية جمعاء تحديداً الخطر الوهابيّ الذي تهبّ رياحه علينا من صحراء الربع الخالي ومطامع آل سعود التاريخية في هذه الأمّة.
يقول سعاده: « لسورية في أقصى الجنوب ميناء بحريّ عظيم الخطورة التجارية والحربية هو ميناء العقبة الواقع في داخل الخليج المعروف بهذا الإسم. ويقع هذا الميناء بحكم الوضع الجغرافي في أعمال شرق الأردن وهو قريب من المملكة العربية السعودية .
وقد اتجهت أنظار الملك السعوديّ إلى العقبة منذ زمن وحاول كثيراً أن يتفاهم مع بريطانية العظمى لكي ترضى عن وقوعها في يده. ولسبب حربيّ هام فضّلت بريطانيا أن تبقى العقبة السورية في إمارة شرق الأردن الضعيفة وبقاء العقبة في إمارة شرقي الأردن يلقي ستاراً على خطورة هذا الميناء المسيطر على خليج يُعدّ أفضل كمين وملجأ للأسطول المستولي عليه. وقد اتجهت أنظار بريطانية العظمى في الآونة الأخيرة إلى العقبة وأخذ خبراؤها يدرسون إمكانيات هذا الخليج الحربية خصوصاً بعد أن استولت إيطالية على الحبشة ووصلت بين البحر الأحمر والمحيط الهندي.
والظاهر أن لابن السعود مطامح سياسية تجعل استيلاءه على العقبة أمراً ضرورياً وفوق ذلك فابن السعود لا يطمع فقط بالعقبة بل بسورية كلّها. فهو يغدق الأنعام على عدد من الصحفيين في لبنان والشام وفلسطين. ويتجاوز أنعامه هؤلاء إلى عدد من السياسيين الرسميين وغير الرسميين وعدد من أساتذة المدارس فيقوم هؤلاء بالإذاعة له باسم الوحدة العربية ودعاته يتزاحمون من هذه الجهة مع دعاة ملك العراق وصنائع السياسة العراقية الذين ترى بعضهم يرتدي شعار العراق الصدارة .
وقد قويت الدعاوة لابن السعود في سورية حتى أن كثيراً من السوريين أخذوا ينظرون إليه نظرهم إلى المنقذ المنتظر. ومما لا شك فيه أن هذه الإذاعة القومية لابن السعود تُعتبر تمهيداً جديداً لفتح عربي سعودي سورية.
ليست فكرة التوسّع العربي خيالاً بل حقيقة تدعمها الحاجة المادية إلى موارد العيش. وابن السعود يرى أن مملكته تحتاج إلى موارد تثبتها ويليق بها الملك. فإذا لم تحصل على موارد جديدة لم تستطع الثبات في الأزمات السياسية والاقتصادية وآذنت بالتفكك والانهيار. وكما وجدت القبائل العربية لعهد النبي أغراضها المادية في الاتحاد في الإسلام كذلك تجد القبائل العربية اليوم أغراضها المادية في العصبية الدينية الوهّابية فترمي إلى فتح جديد والاستيلاء على الأمصار المجاورة باسم الرسالة الوهّابية المعادية للسنّة والشيعة والتمدّن المسيحي الإسلاميّ العام.
وبديهيّ أيضاً أن فكرة فتح عربيّ لا يمكن أن تتولّد من نظرة فاهمة في الحاجة الاقتصادية والاستعمار لأن العقل العربيّ لا يزال على حال من الفطرة بعيدة عن فهم العوامل النظامية المركبة. وهو أمر عرض له ابن خلدون في دراسته أحوال العرب وشؤونهم في مقدمته المشهورة. فله فيها فصل السابع والعشرون في أن العرب لا يقوم لهم ملك أو سلطة إلّا بدعوة دينية من نبوّة وغيرها.
والأخبار الواردة حديثاً تفيد أن العصبية الوهّابية تنذر الشعوب حول بلاد العرب بخطر حرب مداهمة. فجيوش ابن السعود تتجه نحو حدود شرق الأردن. وقد أحسّت إمارة شرق الأردن بالخطر المحدق فقامت جيوشها بمناورة على الحدود تمريناً لها على الدفاع.
إن الحالة من هذه الجهة خطرة فإذا ذهبت العقبة إلى المملكة العربية السعودية زالت من سورية إمكانيات حربية تجارية ضرورية جداً لها من حيث هي أمّة ناهضة لها مصالح واسعة».
إنه ختام هذه الرؤيا المتنبّئة براهننا على نحو فذّ. أليس مدهشاً حقاً أن نقرأ عن أطماع آل سعود في أرض الهلال الخصيب منذ ذلك الزمن إلى اليوم؟! وعن «العصبية الوهّابية تنذر الشعوب حول بلاد العرب بخطر حرب داهمة»؟! وعن « فتح جديد والاستيلاء على الأمصار المجاورة باسم الرسالة الوهّابية المعادية للسنّة والشيعة والتمدّن المسيحي الإسلاميّ العام»؟! وعن ابن السعود الطامع بسورية كلّها « يغدق الأنعام على عدد من الصحفيين في لبنان والشام وفلسطين ... وعدد من السياسيين الرسميين وغير الرسميين وعدد من أساتذة المدارس ... ؟!
نِعْمَ الرؤيا ونِعْمَ البصيرة حين تكونان لشهيد الحقّ والحقيقة لأنطون سعاده شهيد الأمّة لمجدها وعزّتها.