ماذا قال الجولاني في جنيف وأهل جنيف؟

نبيه البرجي

ذات يوم كتبنا عن غربان بياقات بيضاء. الآن، يكتب التركي جنكيز تشاندار عن ذئاب بياقات بيضاء، ساخراً من اولئك الذين فوجئوا بأن الذئاب هي الذئاب، بعدما ظنوا ان بالامكان برمجتها لغاية محددة، وهي القتال ضد بشار الاسد وازالة نظامه. بعد ذلك توضع الذئاب في اقفاص وتعاد الى مكان المنشأ.
تشاندار يكتب ايضا عن مهرجان الغباء في سوريا. بعد فوات الاوان يفكر الاوصياء على « الثورة»، والذين طاردوا الربيع العربي بالعباءات والخناجر، باعادة النظر في استراتيجيتهم التي تمحورت اساسا على التمويل العشوائي لكل شذاذ الآفاق، وعلى الادارة القبلية للسياسات وللمواقف، وذلك باعادة تكوين طراز آخر من المعارضة البعيدة ايديولوجيا عن تنظيم القاعدة، على ان يتم تشكيل قيادة فاعلة على الارض (لعلهم يختارون جورج صبرا او هيثم الملاح او اياً من الوجوه الكاريكاتورية الاخرى) هي من تتولى ايضا عملية القبض والدفع. اليست هي الثورة المدفوعة الاجر؟
لا احد يمكنه الحديث عن طوباوية النظام واغفال نقاط الخلل البنيوية، لا سيما لجهة التغاضي كلياً عن مقتضيات الحريات العامة، ولجهة اعتماد النظرية الاقتصادية لاحدهم والتي تأخذ بالاعتبار ما تقوله شاشات وول ستريت، او ارصفة روتردام،دون اي اعتبار للطبقات الدنيا. قبل اندلاع الاحتجاجات التي مازلنا نصرّ على انها كانت مبرمجة، وعبر ذلك التواصل بين « اخوان» اربد و«اخوان» درعا، انطلقت صرخات ، اجل صرخات عارية، وتدعو الى عدم تعرية الريف الذي ترك، فعلا، في العراء.
ولكن لننظر الى المكان الذي تقع فيه سوريا، وبطبيعة الحال الى الحساسية الجيوسياسية لهذا المكان. ولنلاحظ انه ما ان اندلعت الاحتجاجات حتى كان التقاطع العملاني بين اورشليم واسطنبول. كيف لاي سوري ان يقبل بأن تكون عاصمة النير العثماني هي مقر «الثورة» في سوريا؟ لا نزال عند ذهولنا، بل وعند استهجاننا، ان يغدو السلطان العثماني( او السلجوقي) بما تعنيه الكلمة، وهو الذي يسحق اتنيا وطائفيا نحو نصف السكان في بلاده، الوصي على دعاة الديمقراطية والعدالة في سوريا..
ولعل الذي يثير الاستغراب اكثر هو تواطؤ البعض منا، مادامت عيوننا قد باتت عرجاء الى هذا الحد، مع القائلين ان النظام هو الذي استجلب «جبهة النصرة» و«دولة العراق والشام» وغيرها من التنظيمات المجنونة لارباك «الجيش الحر» ميدانيا من جهة، ولحمل المجتمع الدولي على اعادة النظر في سياساته..
وعلينا ان نقول، والحال هذه، ان النظام إياه الذي راح يخبط خبط عشواء في بدايات الازمة، هو من اقام معسكرات الايواء والتدريب على الاراضي التركية لكل اولئك الاتين من اصقاع الدنيا للقتال من اجل الاسلام، وهو من نسق مع اجهزة الاستخبارات على انواعها وانفق مليارات الدولارات، ومنح جوازات السفر وخصص الطائرات لشراء« المجاهدين» بغية ازالة «نظام الزنادقة» في دمشق. هكذا قال بالحرف الواحد الشيشاني رؤوف زاداييف.
كل هذا بات جزءا من الماضي. ثمة مشهد اخر الآن. لا نعتقد ان وليم كريستول عاشق للنظام السوري وحلفائه لكي يلاحظ ان هؤلاء يعملون اوركستراليا، فيما المعارضة عبارة عن شظايا سياسية ومذهبية وقبلية ترتبط، عشوائيا، بعشرات المراجع الخارجية، ليضيف انه «عندما يهطل الذهب هكذا فلن تجد امامك سوى…الصياح».
الواضح ان سقوط السيناريو الذي اعده بعضهم، وكانوا في تنسيق كامل مع جون ماكين ودنيس روس، والذي كان يرمي الى استدراج ادارة باراك اوباما لتوجيه ضربة عسكرية الى النظام في سوريا، هو المسؤول الآن عن حالة الهذيان التي تعتري بعض الاوصياء على المعارضة في سوريا، وبعدما كان هؤلاء الاوصياء قد جهزوا طائراتهم الخاصة للاقتتال الى دمشق غداة الضربة، ربما للرقص في اسواق المدينة.
هنا المشكلة، سقط السيناريو فكانت المتاهة، وكانت ردات الفعل العصبية، خصوصا ان الاوصياء الذين انفقوا مبالغ خيالية حملت اعلاميا مصريا على القول لنا انه كان باستطاعة هذه المبالغ ان تسقط ملكة بريطانيا، تعاطوا قبليا مع الارض، ودون وجود غرفة عمليات مشتركة تنسق عسكريا واستخباراتيا وماليا، فكان ان التنظيمات راحت تتناسل على نحو لا يمكن تصوره، وان كان جليا ان احد الاسباب الرئيسية لذلك هو ان كلا من الاوصياء، او العرابين، كان يريد انشاء المعارضة الخاصة به…
موزاييك غرائبي وبما تعنيه الكلمة. والذي يجري الآن ليس فقط اجترارا للسياق العصبي إياه، او لان الصدمة غطت المشهد بالكامل، وانما لان الائتلاف الوطني تحول الى شتات.
حجارة الشطرنج تبعثرت ولا مجال لكي يلتقطها احد ويعيد ترتيبها، ومع ادراك عرابي المعارضة، وبعضهم شديد التوجس من التسونامي الايديولوجي الذي اجتاح بعض المناطق السورية الحساسة، ان الائتلاف الذي يتسكع اعضاؤه بين المقاهي، او بين غرف الفنادق، لا يمثلون اي شيء على الارض بعدما استهلكتهم اجهزة الاستخبارات، حتى ان احدهم الذي ابتعد قال لنا انه « ينقصهم فقط ان يلقوا بنا في صندوق القمامة».
هؤلاء هم من صنعوا الغرنيكا السورية والذين راهنوا، بسذاجة منقطعة النظير، على احداث تعديل دراماتيكي في قواعد اللعبة في المنطقة وفي احيان كثيرة من خلال الاثارة الطائفية، دون ان يقرأوا بدقة ما تعنيه سوريا في الصراع. قال لهم فلاديمير بوتين ذلك منذ بداية الازمة لكنهم مضوا في اللعبة الى نهايتها. الآن اين هي المعارضة التي تأكل بعضها البعض؟ واين هو النظام البديل؟
نخجل ان ننقل للاخضر الابراهيمي ما قاله ابو محمد الجولاني في جنيف واهل جنيف. حبذا لو يتخلى العرب، او بعضهم، ولو للحظة عن ثقافة…العباءة والخنجر!