عذرا ماركيز... مئة عام من الفتنة

عذرا ماركيز... مئة عام من الفتنة



محمد محمود مرتضى

بعد محاولتين لم يكتب لهما النجاح، نشأت الدولة السعودية الثالثة في عام 1902 والمستمرة الى الآن.

كانت المحاولة الأولى عام 1745 واستمرت الدولة الأولى الى أن أرسل لها والي مصر آنذاك، محمد علي باشا، حملتين الى الحجاز سنة 1811، واستمرت الحرب الى أن تمّ تدمير الدرعية العاصمة السعودية عام 1818.

ثم المحاولة الثانية عام 1821، أو ما عرف بالدولة السعودية الثانية، والتي استمرت حتى عام 1898 وانتهت بسبب تقاتل الأمراء فيما بينهم .
منذ الدولة السعودية الأولى كان الانطلاق بحلفٍ بين آل سعود وأبناء عبد الوهاب، حلفٌ تعمّد بالدماء قام على تحالف الدين مع المصالح، محمد عبد الوهاب يعطي لآل سعود الغطاء الديني عبر دعوة وهابية تكفيرية، وآل سعود بالتعاون مع النجديين يغيرون على المحيط سلباً ونهباً، اغارات كانت بدافع السلب، وهو ما اعتاده النجديون، لكنهت الآن أصبحت بغطاء ديني من رأاس العقيدة الوهابية.

ويكفي أن نعرف أنّ شعار الاتفاق الموقّع بين الوهابية وآل سعود هو: الدم الدم الهدم الهدم، لنعرف المصير الذي تنتظره المنطقة بأسرها.
لم تكن الدعوة الوهابية التي أتى بها محمد بن عبد الوهاب سوى امتداد لآراء ابن تيمية التكفيرية. ورغم الطبيعة الدموية التي رافقت نشوء المملكة، الا أنّ هذه الدعوة وهذه المملكة لم يكن ليكتب لها النجاح لولا عنصرين أساسين:
الأول: هو وجود البريطانيين الذين قدّموا الدعم الكبير لآل سعود، ليس فقط بالسلاح وإنما عبر التدخل العسكري المباشر في بعض الأحيان لقمع المعارضين.
الثاني: الطفرة النفطية التي شهدتها المملكة، ما أعطاها ثروة طائلة استعملتها في تأسيس أركان المملكة ونشر دعوتها في أقطار العالم الإسلامي.

وفي الواقع، لم يكن مصادفة أن يترافق نشوء هذه المملكة مع ظهور وعد بلفور، الذي أسّس لزرع الكيان الصهويني في المنطقة. ولا نجانب الصواب إن قلنا إنه ثمّة تشابهٍ كبير بين نشوء هذه المملكة وبين نشوء الكيان الصهيوني، لا سيما وأنّ كلّ الدلائل التاريخية تشير الى تعاون واضح بين آل سعود والإنكليز فيما يتعلق بوعد بلفور.
وللتذكير، فصاحب كتاب (تاريخ آل سعود) ذكر وثيقة نقلاً عن كتابٍ أرسله (جون فيلبي) بعد نفيه إلى بيوت عام 1952 م، إلى سعود وأخيه فيصل، مع صاحبه حسين العويني، وبحسب الكاتب تقول الوثيقةً: إنّ عبد العزيز وقعها في مؤتمر العقير، بناءً على طلبي لنثبت للمخابرات الإنكليزية حسن نوايا عبد العزيز تجاه اليهود..

ولم يمتنع ابن سعود حين طلب إليه برسي كوكس أن يوقّع على جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود، بل أجابه قائلاً: "إذا كان لاعترافي هذه الأهمية عندكم، فأنا أعترف ألف مرة بإعطاء اليهود وطناً في فلسطين أو غير فلسطين، وهذا حقٌّ وواقع!!"، وهنا دسّ عبد العزيز ىيده وأخرج ورقة صغيرة كانت في جيبه المتدلي من أعلى صدره إلى أسفل بطنه، وكتب السلطان بخط يده، يقول:

"أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود، أقرّ وأعترف ألف مرة للسير برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين للمساكين اليهود أو غيرهم، كما ترى بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتى تصبح الساعة".

وقال فيلبي: بعد انفضاض هذا الاجتماع، أخذت أمازح عبد العزيز متسائلاً وقلت: كيف تبصم يا عظمة السلطان بهذا الشكل؟ ألا تتوقع أن يغضب العرب على عظمتكم فيما لوعثروا على هذه الوريقة؟ فقال باستهزاء: العرب ؟! العرب، وين العرب؟ نحن سلاطين العرب يا حاج فيلبي.. ولو انتظرنا رأي العرب ما أصبحنا سلاطين كما ترى.. وما دامت بريطانيا راضية فلا يهمّ إن غضب العرب أو رضوا.. وما دامت هذه الورقة عند كوكس فهي في مأمن.

قلت للسلطان: ربما يسبّب هذا التوقيع تشريد شعب فلسطين بكامله من فلسطين.. فردّ عبد العزيز علي بقوله، وهو يضحك بصوتٍ مرتفع: تريد أن أغضب بريطانيا لأنّ عدداً من أهل فلسطين سيشرد؟.. أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحميني بريطانيا من الأعداء، ولتحرق فلسطين بعد هذا.. من يعرف أنّ في نجد شيئاً اسمه السلطان ابن سعود لو رفضت التوقيع أو عارضت أوامر سيدنا كوكس، أنت تمزح والا صادق يا فيلبي؟
قلت أانا ابتسم: لا يا عظمة السلطان.. إنني أمزح لأرى ما تقول.

يرتبط نشوء هذه المملكة بزرع الشقاق بين العرب، وإضعاف شوكتهم عبر نشر الفكر التكفيري، وشراء زعماء القبائل والعشائر وتقليب المسلمين بعضهم على بعض. فكتب التاريخ حافلة بكيفية دعم ملوك المملكة للإنكليز لإضعاف السلطة العثمانية، في تناقضٍ صريحٍ وواضح لدعوتهم الدينية التي تقوم على الدعوة لإعادة الخلافة الإسلامية.

أما تاريخ اليمن فحافلٌ بأرقام الرواتب الشهرية التي كانت تصل الى رؤساء القبائل فيها، لإضعاف قيام دولة يمنية قوية. فيما دعاة الوهابية ينتشرون في أرجاء دول الخليج ليكونوا سيفاً مسلطاً على ملوكها وأمرائها.
أما الدور السعودي في محاربة مصر وزعامة جمال عبد الناصر فغير خفي على أحد. وهكذا في زرع الشقاق في العراق ونشر الفتن فيه، ودعم صدام حسين في حربه المفروضة على إيران.

نادراً ما تجد دولةً عربيةً لم يفتك بها المال السعودي، الذي سُخّر لمنع قيام وحدةٍ عربية قوية في مواجهة العدو الإسرائيلي.
منذ ظهورها في شبه الجزيرة العربية، والعقيدة الوهابية تركّز في فتواها على المذاهب الإسلامية الأخرى تكفيراً وتضليلاً ومهاجمةً لكلّ صرحٍ ديني، ابتداءً من الأزهر الشريف في مصر، وصولاً الى الحركات الصوفية.

لا نبالغ إن قلنا إنّ وجود المملكة بين ظهراني العرب والمسلمين يشكل العائق الأكبر أمام تطوّر الأمة الإسلامية ونهوضها ووحدتها.
حبذا لو أنّ المملكة منذ نشوئها قد عاشت في عزلةٍ هي ووهابيتها، لكانت قد أراحت واستراحت، لكنها، عذراً ماركيز، مائة عامٍ من الفتنة.